إدارة صفحة د.محمد علي الجزولي تكتب :مؤامرة الدعوة لتجاوز الأيدلوجيات أهدافها وتفكيكها
متابعات| الرائد نت
يمكننا أن نفهم ما تحدث عنه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس وهو ينحت في جدار الفلسفة مصطلح ما بعد العلمانية إذ يمكن تصور البحث عن مربع مفاهيمي وقيمي بعد العلمانية وقبلها ومعها ، كذلك يمكننا فهم ما يتحدث عنه الفلاسفة رولان بارت – ميشال فوكو – جيل دولوز وهم يكتبون ويحاضرون عن مصطلح فلسفي جديد وهو مصطلح ما بعد الحداثة إذ يمكن تجاوز مفاهيم الحداثة في زعمها قدرة العقل البشري على الإحاطة بكل الحقائق والإستقلال بمعرفتها إلى مفاهيم أخرى تقول بنسبية معارفه ، لكن المصطلح الذي لا يمكن تفهمه لأنه مخالف لواقع الأشياء والإنسان هو مصطلح ما بعد الأيدلوجيا وذلك الخطاب الرومانسي الذي يدعو إلى مشروع متجاوز للأيدلوجيات ذلك لأن أي مربع مفاهيمي جديد وأي منهج للتفكير تتم الدعوة إليه وأي نسق فكري يتم الترويج له هو أيدلوجيا جديدة وليس تجاوزا للأيدلوجيا !، وهي محاولة تكتيكية تهدف إلى حدوث إنزلاق نفسي لمفاهيم وأفكار جديدة بعد تجريدك من أسلحة الممانعة الفكرية بدعوى تجاوز الأيدلوجيا ، عندما زعم كارل ماركس أن مذهبه تجاوز الأيدلوجيا إلى الحديث عن علاقات الإنتاج وعدالة التوزيع جاءه الرد من داخل المدرسة على لسان المفكر الماركسي جورج بوليتزر بأن الماركسية في حد ذاتها أيدلوجيا ، يبقى السؤال ما هي الأيدلوجيا ؟ ولماذا لا يمكن تجاوزها ؟ ، كان أول ظهور للمصطلح على يد الفرنسي ديستوت دوتراسي (1754 – 1836) إذ ورد في كتابه «حول ملكة التفكير». والمصطلح يعني علم الأفكار ، فالايدلوجيا هي وجهة نظرك عن الأشياء وهي النسق المفاهيمي الفكري الذي تفسر به الظواهر والأحداث من حولك ، هي التفسير الذي تتبناه لوجودك والرؤية الكلية التي تنطلق منها في فهمك للكون والإنسان والحياة ، وبهذا التعريف لمصطلح الأيدلوجيا هل يمكن أن تنفك تصرفات الإنسان عن تصوراته أم هي نتيجة لتلك التصورات ؟!، وهل يمكن وجود فعل إنساني بلا نسق مفاهيمي يدفع لحدوثه ويبرر وجوده ؟!، للإجابة على هذا السؤال بشرح موجز نطالع من كتاب *نظرية المعرفة موضوعها وأدواتها ومصادرها* لدكتور محمد علي الجزولي فك الله أسره *( إن الفعل الإنساني أي فعل كان الإقدام والإحجام ، العطاء والمنع ، الفرح والحزن يمر بأربع مراحل يمكنني أن أطلق عليها التاءات الأربعة لتسهيل فهمها وحفظها وهي “التصرف والتوصيف والتصور والتأصيل” فالتصرفات الإنسانية ناتجة من توصيفات والتوصيفات ناتجة من تصورات والتصورات ناتجة من أصل مرجعي يزن به الإنسان الحق والخير والجمال والباطل والشر والقبح سواء كان هذا الأصل المرجعي ميتافيزيقيا يتعلق بالإلهيات أو كان فيزيقيا يتعلق بالتجربة والمحسوسات ، وعليه لا يمكن أن ينفك أي فعل إنساني عن تصور متعلق بموضوع الفعل وميدانه استوجب وجوده والقيام به ، وحتى تتضح هذه التاءات الأربعة وترتيبها ودورها في حدوث الفعل في الخارج أضرب لذلك مثالا بسيطا ، إذا وجهت أطفالك توجيها حازما بعدم إستخدام جوالك ثم رأيت أحدهم خارج من غرفتك وبيده جوال فقمت بالإمساك بيده هذا ( تصرف منك) لتوصيفك له أنه مخطئ وهذا ( توصيف ) لتصورك أنه اخذ جوالك وهذا ( تصور ) الأصل المرجعي يتمثل في خروجه من غرفتك وأن جوالك موجود داخل الغرفة وهذا ( تأصيل ) ومصطلح التأصيل هنا لا اقصد به المفهوم الإسلامي برد المسائل إلى الكتاب والسنة وإن كان هو جزء من تائنا لكن أعني به الأصل المرجعي الذي تم بناء التصور عليه وإستنباطه منه فإذا وقع أي خلل في المرجعية كأن يكون جوالك في جيبك وليس بالغرفة فقد بطل التصور والتوصيف والتصرف لذلك ينبغي حصر مناقشة الأفكار في نقد مرجعياتها فالإنحرافات تنتج من الخطأ في الدليل أو الخطأ في الإستدلال ) .*
خلاصة هذه المسألة التي إقتبسناها من كتاب *نظرية المعرفة* هي أن الفعل الإنسان لا ينفك عن التصورات والأنساق الفكرية التي يتبناها الإنسان فكل فعل هو ابن فكرة لذلك من التسطيح الظن بأن هنالك ما يعرف بعصر ما بعد الأيدلوجيا أو عصر ما بعد الأفكار لأن مفهوم ما بعد الأفكار هو في حد ذاته فكرة ، والصراع في التاريخ الإنساني كله مرده للخلاف في المفاهيم والأفكار والمذاهب والتصورات وإن أخذ مظاهر مختلفة سياسية وإقتصادية وإجتماعية حتى الذين كتبوا عن نهاية التاريخ لم يتحدثوا عن عصر ما بعد الأيدلوجيا والحضارات وإنما تحدثوا عن نهاية التاريخ من منظور إننتصار الحضارة الغربية وإفتراسها للحضارات الأخرى ، إن الصراع في السودان اليوم ليس صراعا سياسيا وإنما هو صراع مع منظومة أيدلوجية لها مشروعها الثقافي والإقتصادي والسياسي والإجتماعي ومناهجها التعليمي وعقيدتها العسكرية والأمنية وأي حديث عن تجاوز الأيدلوجيا هو دعوة للتخلي عن الدرع الحصين ، هو دعوة للإنتقال من ميم الممانعة والمقاومة إلى ميم المماهاة والمساومة !،
إن النيوليبرالية المتوحشة التي تحكم السودان اليوم لا مانع لديها من التصالح مع الإسلاميين لكن بشرط ان يقبل الإسلاميون هؤلاء أنسنة القيم وتسليع الدين يقبلوا بنزع القداسة عنه وجعلها سائلا قابلا للمرشح والتبخير ! ،يقبل بالتطبيع بدعوى المصلحة وإختلال ميزان القوى !!،
ويقبل بإستمرار تجريف القيم بدعوى دع الناس يعرفون حقيقة العلمانية !!،
ويقبل بتسليم مواطنين لقضاء أجنبي بدعوى الوطن أغلى من الأفراد !!،
ويقبل بإنتهاك حقوق الإنسان وكبت الحريات بدعوى حماية الثورة وأن الأمن مقدم على الحرية !! ، وشيئا فشيئا تتناقص الأثمان في عالم تسليع القيم حتى يبيع كل شيئ ..دينه ، قيمه ،وطنه ، شرفه مقابل مصلحته الشخصية في الحرية والسلامة من ( الردم والشيطنة) !! ، وتلك حسبة خاسرة وبضاعة كاسدة تجد في أصحاب العزائم الخائرة والإرادات الشرمة مشترين ، أما الراشدون المدركون لطبيعة المعركة والتهديد الوجودي المحيط ببلادنا وشعبنا مواقفهم غير قابلة للتسليع ولا ثمن لها إلا رضوان الله تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) البقرة 207