معز زكريا يكتب: العالم الافتراضي الحقيقي
الخرطوم الرائد نت
عندما تنشئ حسابا على أي موقع من مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك، الواتساب، التيليجرام..) فإنه يطلب منك مباشرة السماح له بالوصول إلى جهات الاتصال لديك، فيقوم بنسخ كل أرقام الهواتف والأسماء المحفوظة في جوالك ويظهر لك كل شخص عنده حساب من قائمة الأسماء في هذا التطبيق، ويطلب منك إرسال دعوة لمن ليس عنده حساب في التطبيق.
تعتبر هذه أول خطوة في خطوات صناعة العالم الافتراضي الحقيقي في مواقع التواصل الاجتماعي، فبمجرد ظهور عدد كبير من جهات اتصالك على هذا التطبيق فإنك ستعتقد أن كل الناس يستخدمون هذا التطبيق مثلك، وستتخيل أنهم جميعا يتابعونه باستمرار وشغف مثلك، وأنهم جميعا يدخلون إليه يوميا وينشرون ويرسلون ويستقبلون ويتابعون مثلك.بعد دخولك لهذا الموقع أو التطبيق تبدأ الخطوة الثانية في صناعة العالم الافتراضي الحقيقي، وهي الحسابات والصفحات والمجموعات المقترحة، فمن خلال معلوماتك الشخصية (العمر، الدراسة، المنطقة..) وأصدقائك الذين ظهروا لك من قائمة اتصالك، والذين في الغالب تكون اهتماماتهم مثل اهتماماتك أو قريبة منها، من خلال هذا وغيره يقوم التطبيق باقتراح أصدقاء مشتركين بين عدد من أصدقائك، وباقتراح صفحات أو مجموعات أعجب بها أصدقاؤك، فيتأكد لديك أن كثير من الناس لديهم نفس اهتماماتك ويتبنون نفس آرائك، ومنشغلون بذات قضاياك وأولوياتك.يستمر استخدامك لهذه التطبيقات بصورة يومية، ويستمر التطبيق في اقتراحاته لك – والتي بناها بناء على منشوراتك وتعليقاتك والأشياء التي أعجبتك – فتتابع منها ما تشاء، وتبعد ما تشاء، وبالتالي تصبح أنت من يصنع هذا العالم الافتراضي، أو بعبارة أدق: التطبيق هو الذي يصنع لك عالمك الذي تحب كما تحب، وعندما تنزعج من أحد الأصدقاء يمكنك إلغاء صداقته فوراً بل حتى حظره نهائيا من التواصل معك، وكذلك إذا ظهر لك فيديو أو صفحة أو مجموعة لا ترغب فيها فيمكنك إرسال بلاغ للموقع حتى لا تظهر لك مرة أخرى، بل ويمكنك المطالبة بإزالتها كليا من التطبيق أو موقع التواصل هذا، وبهذا تكتمل الخطوة الثالثة في صناعة العالم الافتراضي الحقيقي.بعد هذه الخطوات الثلاثة (انشاء الحساب، وظهور الاقتراحات، والإعجاب والابعاد) يصبح هذا العالم الافتراضي الذي أنشأته أنت أو صنعه لك الموقع بحسب ما تحب يصبح هو عالمك الحقيقي، يصبح كذلك عندما نظن أن كل الناس يهتمون بما نهتم به نحن وأصدقاؤنا في هذه المواقع، وعندما نعتقد أنهم يؤمنون ويتبنون القضايا والمبادئ التي نؤمن بها نحن، وعندما نستغرب من عدم معرفة شخص ما لموضوع انتشر بقوة على هذه المواقع ونرى أنه خارج التاريخ، و الأسوء هو عندما نبني أحكامنا في الواقع الحقيقي بناء على هذا العالم الافتراضي.فمثلا نتبنى موقفا سياسيا معينا في قضية ما لأننا وجدنا كثيرا من أصدقاءنا كتبوا منشورات أو تعليقات بهذا الموقف، أو نصدق خبرا ما لأنه ظهر لنا في صفحات ومجموعات كثيرة جدا نحن نتابعها، أو نحب شخصا ما ونعظمه لأن لديه عددا كبيرا من المتابعين، أو ننشغل طوال اليوم بقضية ما لأن كل أصدقاءنا وضعوا صورة أو كتبوا عبارة على حساباتهم ترمز لتلك القضية، فأصبح العالم الافتراضي هو الحكم على العالم الحقيقي، وأصبح هو الأصل والواقع الحي هو الفرع، وصار هو العالم الافتراضي الحقيقي في أذهاننا وسلوكنا.
ولو خرجنا قليلا من عالم الوسائط ومواقع التواصل الاجتماعي ووقفنا مع أنفسنا وقفة صادقة صافية لوجدنا أن هذا العالم عبارة عن شيء من الحقيقة وكثير من الخيال والتزيين، وشيء من الصدق وكثير من الكذب، فمثلا نحن نعلم أن الصورة الشخصية الرائعة التي نضعها على حسابنا لا تطابق صورتنا العادية في الواقع، فكاميرا الجوال أو تطبيقات الصور قد خففت من الخطوط والتجاعيد وأخفت العيوب وزادت الإضاءة وأشبعت الألوان فصارت الصورة في غاية الروعة والجمال أو على الأقل أفضل بكثير من الواقع، والمنشورات الجميلة التي ننشرها، والكلمات الرائعة التي نكتبها بعيدة جدا عن سلوكنا الحقيقي، وربما نكون مناقضين لها تماما في معاملاتنا اليومية، ولو طبقنا في واقعنا المعاش 10٪ مما نكتبه وننشره في عالمنا الافتراضي لصرنا ملائكة أو لصافحتنا الملائكة في الطرقات.
دخولنا لهذه العالم الافتراضي فيه خير كثير وشر كثير ونحن من نختار بينهما، ولكن الكارثة تقع عندما نعتقد أن العالم الافتراضي هو الحقيقة، وعندما ننظر إلى العالم الحقيقي بنظارة العالم الافتراضي أو من نافذته، وعندما نحكم على الواقع المعاش بناء على الواقع المصنوع، عندها نصبح مثل شخص لبس نظارة رقمية تعرض أمامه فيلما أو لعبة أو مشاهد وهو يتفاعل معها وينفعل لها كأنها حقيقة، والناس من حوله يضحكون عليه لأنهم لا يرون أمامهم ما يراه هذا الشخص في نظارته الرقمية التي صنعت له عالما افتراضيا.