رحيل الشيخ أبوعزة وعيد الجيش بقلم عمار محمد آدم
الخرطوم شبكة الرائد الإخبارية
ليس تعنيني البزة الخضراء عند كليهما فهم يقولون (ميري أخضر)، وفي الصوفية للإخضرار معنى، إلا أن هذا الأمر لا يعنيني حتى وإن كانت الرايات والآيات وشهادة (أن لا إله إلا الله) في رايات الجيش والصوفية (والله أكبر) ومهرجانات القرآن الكريم.. لقد كان جعفر النميري صوفي حتى الثمالة، رأيته مرة في حلقة ذكر صوفي يقود جحافل المتصوفة وهو إمامهم يتبعونه حينما يتقدم ويتقهقرون معه حينما يتقهقر، وكأننا في مشهد كر وفر في أرض العمليات، لا يعنيني ذلك كله إلا بقدر ما يعنيني أن الجيش والصوفية هم يشبهون أهل السودان، وقد رسخوا في الذات السودانية وأصبح مشهد الجيش والصوفية مشهداً ثابتاً لا يتغير.
الدفوف التي تضرب عند المارشات العسكرية، وتلك الأخرى التي تقرع في حلقة الذكر ثمة علاقة منطقية بينهما، وكليهما من عمق هذا الشعب ومن أصل هذه الأمة والضباط والجنود عند الإشتباكات حينما يحتمي الوطيس وتحمر الحدق والذكر، حينما يشتد أواره وتشتعل ناره يكون هنا وهناك للمحبين حضور، وما بين دم الشهادة الأحمر القاني ودموع الذاكرين وهم يصرعون ويصعقون عند التجلي، وفي أتون معركة من نوع خاص فيما يرتفع الغبار وتتعالى الأصوات، وما بين البخور والعطور ونفث الذخيرة ورائحة البارود ومسك الشهادة أمر لا تخطئه عيون العارفين.
الصدق هنا وهناك هو القاسم المشترك وما بين العسكر والصالحين يتراءى للناظرين مشهد جديد في أرض طهور، وشعب قلوبه معلقة بحب المصطفى عليه أفضل الصلوات والتسليم.. والموت هناك والفناء هنا والتجرد المطلق أو ما ترون كيف يكون الناس في الشكينيبة وحمد النيل، وكيف يكون الناس في توريت وقيسان.. هم السمر أبناء هذه الأرض المعطاءة وهذه الأمة الولود وهذا الشعب الزاخر بكل المفاخر والقيم وما بين المسابح على أعناق الدراويش واشرطة القذائف على أعناق الجنود أيضاً، يكون هناك معنى كبير حين يبرز الإمام محمد أحمد المهدي أكبر السادة المتصوفة من أم مرحي، والشيخ الطيب، والشيخ القرشي، وخلاوي الغبش، والدراويش وهم يلبسون المرقع وكأنهم قوات الصاعقة، ويكبدون العدو الخسائر تلو الخسائر، والأرض تزهو بالصادقين من السودانيين والأولياء الصالحين والأوتاد والاقطاب والأغواث، وحتى المقدمين والمقدم رتبة في الجيش ودرجة في التصوف هم درجة وسطى كما أنها رتبة وسطى.
الصوفية روح هذه الأمة والجيش هو قلبها النابض وما بينهما يكون هذا الوطن الجديد المتجدد، فلا إله إلا الله هنا ولا إله إلا الله هناك، وقد آن لهذا الوطن الجميل أن تتردد فيه (الجلالات) وهي من (جل الله) لتتناغم مع الذكر والصلوات والعبادة والشهادة، وسهام الليل التي لا تخطيء، وعيون لا تنام هنا وهناك ساهرة وحتى بزوغ الفجر، وما بين جندي يده على الزناد في الثلث الأخير من الليل وما بين صوفي يده على المسبحة، يكون اللطف والحفظ) (وما رميت إذ رميت))
يتجلى لي في هذا الجنوب الذي ما زال على الفطرة والفريق ابراهيم عبود يطرد القساوسة الأجانب، ويعمل على نشر الإسلام ولكن تجيء اكتوبر المشؤومة لتقدق اسفيناً ما بين الجيش والطلاب لمصلحة الأحزاب، وفي الجيش تجرد وفي الطلاب تجرد وعند الأحزاب انتهازية.. ولو أن السادة المتصوفة اتجهوا الى الجنوب وهو على الفطرة، ودقوا طبولهم وأشعلوا فيه نيران التقابة، لكان الأمر الآن هو غير ما نحن فيه الآن.
ما بين مصر والسودان التصوف والحضارة والروح والتاريخ والنيل بكل أسراره، وجيش وادي النيل واتفاقية الدفاع المشترك، وقد تجلى الله تعالى لسيدنا موسى عند جبل البركل، ولقي الخضر موسى عند مقرن النيلين، (ولما بلغ مجمع بينهما) وكانت الصخرة عند الموردة وقبالة مسجد السادة الأدارسة وأمدرمان، وإن كان فيها عبق التاريخ والمهدية، فإن فيها أيضاً الجيش والصوفية، وما بين سلاح المهندسين وكلية القادة والأركان وفيه المهدي، والبدوي، والصائم ديمة، وكرري، والمدرعات، والقوات المحمولة جواً، وجبال أم مرحي، وسيدي الشيخ أحمد الطيب، والسادة السمانية، والشيخ قريب الله، وما بين الأبيض والهجانة، والسيد اسماعيل الولي، والبحرية، والسيدة مريم الميرغنية، والشرفية والسادة المراغنة والمدفقية، والشيخ المجذوب الدامر، والقريبية والتيجانية، صورة متكاملة للتصوف والمجتمع والجيش.
النميري هو من أدخل التدين في الجيش السوداني، والنميري صوفي والصوفية هي دين السودانيين، وكانت قبلها المسيحية.. لذلك كان التسامح هو سمة للمجتمع السوداني، وأيضاً البعد عن العنف النفسي والجسدي، وثمة علاقة ما بين التصوف والمسيحية، إلا أن المسيحيين رسولهم عيسى عليه السلام، ونحن المسلمين رسولنا محمد عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، والجيش هو البوتقة التي تنصهر فيها كل القوميات والاثنيات والملل والنحل، وهو الوعاء الجامع للقومية السودانية، فإن كان الجيش هو هوية الأمة فإن التصوف هو دين الأمة فالمسلمون في السودان يتبع غالبيتهم منهج التصوف،
يلتئم شمل هذه الأمة حينما تتناغم اجزاؤها في أهزوجة واحدة، تجعل الله هدفاً له فهو تعالى الحق المطلق، والصدق المطلق، والعدل المطلق، وعنده الناس سواسية كأسنان المشط، وفي الجيش والصوفية يلتقي جميع الناس دون اختلاف في الأعراق والأجناس والمستويات الاجتماعية، كل الناس عند الشيخ واحد، وكل الناس في الجيش واحد هم سواسية، والمساواة هي الحاجة الحقيقية لهذه الأمة ولا بد من تحقيقها.
ومن فرث الابتلاء والمحن ودم المصائب والمحن، تختبر هذه الأمة وتبتلى في أعظم ما لديهل ليميز الخبيث من الطيب، ولتبدو الأمور على حقيقتها واضحة للعيان كالشمس في رابعة النهار، وقد يقيض الله لهذه الأمة من يلم شملها ويجمع شعثها، ويضمها على الجادة من بعد طول انتظار وعنت وضيق ومشقة وأسى وضنك.