د. فضل الله أحمد يكتب : المثقفون .. يمثلون الفوضى الفكرية التي في رأس السودان .

0


العنوان الذي وسمنا به هذا المقال هو تعبير من التعبيرات البديعة للكاتب الأديب ، الناقد الثقافي ، القاص ، الشاعر ” صلاح أحمد إبراهيم ” .. والتي وردت في متن مقال من مقالاته النقدية للظاهرة الثقافية السودانية ، وتفسيره لحالة صفوية المثقف المنسلخ والمتنكر لبيئته الإجتماعية والوجدانية . وكيف إنحرف المثقفين بمسار السودان إلى وجهة يتكشف خطأها وخطرها كل يوم ، بسبب هزال وغثاثة الأساليب والأفكار التي قادوا بها البلاد والناس .

قبل خمسة عقود ونيف من عمر الزمان ، قالها ” صلاح أحمد إبراهيم ” بلجاء :

المثقفون في السودان ” لحم رأس ” وهم يمثلون الفوضى الفكرية التي في رأس السودان ” …
ولا عجب من أن يشهر ” صلاح ” ويشير بالبيان الفصيح ، الباذخ المعاني ،
و قد عرف عنه ، أن من أهم مكونات شخصيته ، هي ثقافة السيرة النبوية الشريفة ، ونوادر الأدب العربي ، فقد نشأ في دار ثقافة إسلامية ، وكان أبوه رحمه الله ، من أساتذة العربية والدين ، معلما شديد التقوى ، غضيض الطرف ، معروفا بذلك ، مشهودا له فيه ، وفقا لقول البروفيسور ” عبدالله الطيب ” ..

وقال ” صلاح ” يفتخر ببعض ذلك في قريضه :

نترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا لنا ذكر وذكرى من فعال وخلق
ولنا إرث من الحكمة والحلم وحب الآخرين
وولاء حينما يكذب أهليه الأمين .

ويكذب أهليه الأمين أخذها بلا ريب من الحديث ” الرائد لا يكذب أهله ” ..

إختار ” صلاح ” الثابت والأقوى والمستمر لقاعدة إنتماءه تكرست لديه فكرة أن ينتزع كيانه خارجا من أكبال وأغلال المنهج الغربي في التفكير بكل ما يغرزه ذلك المنهج من خصائص وضرورات تبدو في وهلتها الأولى مكتملة الشروط – حسب الدكتور عثمان جمال الدين –

ولم يؤطر ” صلاح ” وظيفة المثقف ويحدها عند حدود التنظير لأزمة وأشكالية الثقافة …

بل تناول الرمح ولم يؤثر السلامة ولم يضعف أمام بريق ذهب أي حاكم وصار بذلك مثقفا مفكرا مضيئا بشخصه للنشاط الثقافي والسياسي الإنساني في إطاره العام .

فكتب ” صلاح أحمد إبراهيم ” عن ” البرجوازية الصغيرة ” عن ” مثقفوا الخرطوم ” قائلا :

تقول لي : مثقفوا الخرطوم كالصحراء لا تنبت فيها بذرة ،

أخطأت في التشبيه ، للصحراء في ماضي الزمان شاعرا ذا قلم وقدرة ،

لكنه استكان للخمول ، للذبول وأذبل شعره ، فرط في خياله ،
وما الخيال للصحراء إلا الخضرة .

مثقفوا الخرطوم ، قهوة ، ونومة ، وسهرة وسكرة ،

تفحمني : حلمك يا هذا لقد أشبهته . أنت وهم في هجرة .

بما أن ” صلاح أحمد إبراهيم ” كان منتبها بهذه القوة لأصالته ومعنى وجوده فكتب في أكتوبر 1968م مقالا في مجلة الخرطوم تحت عنوان : ” المثقف السوداني في المصطرع الثقافي ” قائلا :

” كان للإسلام حد جارح وللتعليم الإسلامي ، وللذلك كان لابد من إيجاد البديل ولم يكن التبشير المسيحي كما كان في بقية إفريقيا لأن المسيحية في نظر مسلمي السودان كانت أقل درجة من الإسلام فاليكن التعليم الحديث . فطن كتشنر لذلك فأصدر نداءه والدم يقطر من سيفه يجمع تبرعات لإقامة كلية تذكارية لغردون ومن هنا كانت بداية صراع جديد لا تزال أصداؤه ترن حتى الآن ، بل لا يزال دائرا حتى الآن صراع بين الثقافة المعادية للإستعمار وكما مثلها الإسلام والتعليم الإسلامي منطلقا من الأزهر ومن معهد أم درمان العلمي ، والثقافة الإستعمارية كما مثلها التعليم الحديث منطلقا من كلية غردون التذكارية رأس رمح للإستعمار الثقافي ، فكان خريج الكلية يجد الوظيفة المحترمة والأجر المحترم والمكانة الأدبية المحترمة بينما خريج المعاهد العلمية الدينية يعيش في حاجة مستمرة ويقصى عن الصدارة والمنافسة لا تزال موجودة حتى اليوم ، والصراع قائم حتى توحد المناهج وينتهي التمييز .

وتأسيسا على ذلك افترض صلاح أحمد إبراهيم على أن هدف التعليم الحديث وفق المنهج الغربي هو خلق فئة من صنع يد ” المعلم ” هدفه خلق المثقف السوداني الذي يربطه حبل سري بأروبا المنعزل عن شعبه هدفه المثقف المطموس المسخ المنبت الذي يزيد من البلبلة الفكرية في بلده وأن يتحدى القيم التقليدية . مثقف مخلوق على صورة ربه الذي بوعي أو بدون وعي منه أو لمصلحة خاصة أو لوجه الحضارة الوافدة يمجدها ويكون الدليل الماثل للتقدم الذي يجلبه الإستعمار بجانب قيمته العلمية في خدمة المستعمر من حيث إنتزاعه للقيادة وبجانب تقدمه من حيث الرغد المادي نسبيا .

وذهب قائلا :

المثقفون في السودان ” لحم رأس ” وهم يمثلون الفوضى الفكرية التي في رأس السودان ، وهم عبيد الميري أو ترابه ، قنوعون ، سريعوا التأثر بالفكرة القادمة من خارج البلاد ..

جامعة الخرطوم تمثل إزدواج الشخصية في المثقف السوداني ، فهي دمغة من الدمن الإستعمارية البواقي …
قلعة من قلاع الثقافة البريطانية والثقافة البريطانية لا تحتمل ضرة ..

تلك هي منظورات صلاح أحمد إبراهيم التي خطها في سفر تاريخ الإنتاج الثقافي الإبداعي السوداني ..

ترسا من تروس حركة التاريخ الثقافي في السودان فاعلا ومتفاعلا فيه – حسب الدكتور عثمان جمال الدين – عرف كل المتناقضات التي تضرم داخل أقبية الفهم السوداني مما يشيء بحساسيته لكل التغيرات التي لحقت بمجتمعاتنا .. من المحتمل جدا أن نصف صلاح أحمد إبراهيم بأنه صاحب نبوءات مستقبلية تنبأ بها فصدقت ولعل قراءة متأنية لمفردات هذا المقال الذي نشر في أكتوبر 1968م كأننا نقرأ مقالة كتبها صاحبها بالأمس ..

تلك الرؤية في تقديري وكزة عمد بها إلى دفع المثقف السوداني حتي يدخل به في لب المواجهة الحقيقية . وشاهدنا في ذلك عثمان جمال الدين نفسه الذي قال معترفا ومقرا بفضل ذلك المقال عليه :

” بعد مرور سنوات أربع من 1968وأنا ما زلت أقرأ أرسين لوبين والعقاد والجبهة المعادية للإستعمار ، الرأي العام ، قرأت مقالا في مجلة الخرطوم لصلاح أحمد إبراهيم عن ” المثقف السوداني في المصطرع الثقافي ” كان هذا المقال هو القنبلة الفاصلة بين كل ما عرفت وما تهيأ لي أن أعرف وبين ما أريد أن أعرف .

بهدوء شديد أعدت قراءاتي .. سخرت من بعض نفسي … بحثت لنفسي عن مصادر كان في البدأ صعب دهاليزها .. إخترت زماني ومكاني .. علمني ذلك المقال الجرح والنبل والوسامة وما أريد أن أكون ورحل محمد عبدالحي ورحل علي المك ورحل صلاح أحمد إبراهيم وبقي المقال شاهدا حاضرا فارقا بين الماء والمزن والماء والطحلب ورحل صلاح وبقي من باعوا لنا الماء في أكتوبر 1964م ” بتعريفة ” أذكياء أثرياء ومن كانوا يمسحون دخان القنابل بمائهم زهدا وأصحاب وجع عظيم وقلقا في آن واحد .
الزهد تجاه لوامع الحياة والقلق تجاه إبداعه وسلوكه وهما صفتين ظلتا متلازمتين له في شعره ومنهج حياته على السواء .

فقد قال عنه الدكتور إحسان عباس ” شاب وديع هادئ ولكن وداعته وهدوءه يحجبان ثورة عاتية والتزاما عنيدا بالمبدأ وكفاحا لا يهدأ ، وعلى ذلك ، واسع الثقافة عميق الفكرة متأن في الحكم والإنشاء إتخذ التعبير الأدبي أداة من أدوات الكفاح .

وتتميز آثاره جميعا في النقد والقصة والشعر بالإحكام وتتسم بالجد الغائي .

كان ” صلاح أحمد إبراهيم ” جامحا في حبه للسودان وأهله ، لم يكن يطلب شيئا – والقول للكاتب أحمد البشير الأمين – كان زاهدا في كل شيء يعيش في باريس عيشة الكفاف ، يكتب ويقرأ وينظم الشعر ويطوي جوانحه على حب السودان الذي ملأ عليه أقطار نفسه . ولا مبالغة إنه مات شهيد هذا الحب .

وقال ” صلاح ” عن ذلك الحب :

وكم ذا تغنيت كالكروان الحزين بليل غريب وما من سميع ،
سلام على موطني في البلاد ، على أهله الخيرة الطيبين .
ملاذ الغريب ، سياج الضعيف ،
الحماة ، الأباة ، ليوث العرين
ذوي الأنفس الرائقات العذاب
عليها من الحق نور مبين
كلفت بهم وأنا بينهم
وزدت هوى بالنوى واليقين .

وكم مرة قلت فيها لنفسي وأفشيت ما قلت للعالمين :
أنا منهم ، وبهم ، ولهم ، وخادمهم يوم يأمرون
يعذبني أنهم في العذاب ويؤرقني أنهم نائمون
وسوف أنادي ، أنادي ولو نبذوني ولو قتلون :

أنوء بكم رغم التنائي وهذا ندائي فهل تسمعون .

ذلك هو ” صلاح أحمد إبراهيم ” المثقف الذي أحب السودان ومآثر ومأثورات أهله ، فكان شديد الولع بأغاني الخليل وزنقار وأبو داود ، وكان يحفظ أجزاء كثيرة من أشعار ود الرضي والعبادي وأبو صلاح .

ومن ثم وبذات الأسى و الحزن في رؤيته للفوضى التي تعمل سلبا في حالة التوهان المستمر الذي يعيشه السودان ، يأتي عبقري الرواية العربية ” الطيب صالح ” ويقول في إحدى مقالاته النقدية :

” الفوضى هي أن كل شيء أصبح محتملا ” ..

و ” الطيب صالح ” كما وصفه صديقه الكاتب – الدكتور حسن أبشر الطيب – رجل تجلله الطيبة المتناهية ، والنزاهة الأخلاقية الرفيعة المتمثلة في تعففه وإبائه وسخائه وتسامحه وسعيه المتصل في طلب الآخرين . من يعرفه يجد فيه هذا النقاء اللامحدود وهذا الإخلاص الفطري ، وهذه البشاشة والبساطة غير المتكلفة في كل شيء : لغة وهيئة وحركة .

ونشأته القروية ، فهي دائما المرجعية الجوهرية لما ظل يمثله من قيم ، وما يحمله من عطاء ثابت وما يدعو له من أفكار وما يعبر عنه من مشاعر صادقة وخيرة .

ويقول ” الطيب صالح ” :

كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة ، أراها بعين خيالي أينما التفت .

والمتلقي لأعماله بجميع الأجناس الكتابية ، يجد هذا الإنتماء الأصيل وهذا الوجد البين وهذا الإنحياز وبشغف وموضوعية إلى قضايا وطنه وشعبه .
يعبر تعبيرا صادقا ما بدواخله من أفراح و أحزان ومن آمال وطموحات ومن إحباطات .

يقول :
السودان فأنا أحمله بين جوانحي ، وحيثما ذهبت وحيثما أذهب . هذا هو الوجع الأول ، الوجع البدائي واللانهائي ، السودان بلد مليء بالثراء النفسي والروحي ، فيه طاقات ومواهب ، فيه نساء ورجال وإبداع ..
كان من الممكن أن يكون السودان أحسن مما هو الآن ..
مشكلة السودان هي مشكلة السلطة ، عندما كتبت ” بندر شاه ” كانت صورة السودان حاضرة في مخيلتي أكثر .

فارق العمر بين ” الطيب صالح ” و ” صلاح أحمد إبراهيم ” هو أربعة أعوام ، وهذا يعني أنهما من جيل واحد ..
وجمعت بينهما هذا الشغف بالسودان وتراث ومأثورات أهله .

ويقول : علاقتي بالسودان علاقة إنتماء داخلي عميق مع شيء من العاطفة ..

علاقة الكاتب ببلده علاقة تقوم على الحب المسرف . والضيق سببه الحب لأن الإنسان يحب المكان والأرض والذكريات .

وفي داخل نفس ” الطيب صالح ” بركة واسعة من الأحزان تثير فيه كوامن الشجن ..

ولأنه لا يدخل في الكتابة إلا بدافع تلك الأحزان ، وترغمه للكتابة بألم ممض ، مصدره حب أكيد للوطن ..

وأزعم انه لا وجود لمثقف مبدع سوداني يمكنه مجرد الشبه أو أن يكون مناظرا ” الطيب صالح ” في صدق إنتماءه للقيم المجتمعية والوجدانية لأهل السودان ،

وظل منافحا عنها بكل قدراته الإبداعية في الكتابة والكلام ..

وفي مساء الأربعاء 21 سبتمبر 1988م وفي صالة المغادرين في مطار الخرطوم بدأ ” الطيب صالح ” مقالته الأولى في سلسلة ” نحو أفق بعيد ” لمجلة ” المجلة ” اللندنية ، وقد خصص المقالات الخمسة المتتابعة مباشرة بعد الثلاث الأولى ، ليعبر بها جميعا عن أحاسيسه المعقدة نحو الوطن ،

وكتب ” الطيب صالح ” في صدر المقالة قائلا :

” الأربعاء 21 سبتمبر 1988م . مطار الخرطوم ، صالة المغادرين .
الساعة 50 , 4 مساء .

إنما هذان البيتان ، حتما ، لأبي تمام :

سود الوجوه كأنما نسجت لهم
أيدي السموم مدارعا من قار
لا يبرحون ومن رآهم خالهم
أبدا على سفر من الأسفار

وكأنما عنى بها هؤلاء القوم ، الذين يسمون مجازا بالسودانيين ، لأن زعماءهم عشية الإستقلال ، لم يستقروا على رأي “

ويردف قائلا :

” وربما يكون من أسباب أن هذا البلد لا يستقر على حال ، أن أسمه لا يعني لأهله شيئا . فما السودان ؟

مصر مصر ، واليمن يمن ، والعراق عراق ، ولبنان لبنان ، ولكن ما السودان ؟

لقد أطلق المستعمرون هذا الأسم على كل تلك الرقعة الممتدة من حدود الحبشة شرقا إلى غاية بلاد السنغال غربا ، فوجد الناس لبلادهم أسماء تعني لأهلها شيئا ، وبقينا نحن وحدنا نحمل هذه التركة الإستعمارية الجوفاء ” .

وينهض ” الطيب ” بقولة وبنبرة الحزن والأسى كاشفا الذين تولوا قيادة العمل العام وسياسة السودان من المثقفين منذ خروج المستعمر ولازالوا :

” هؤلاء السادة النجباء أن النسيج الذي نسجوه أوهى من بيت العنكبوت ، سوف تراق دماء كثيرة . حينئذ سوف نسمع نشيدا جديدا ، ونرى وجوها جديدة على شاشات التلفاز . سوف تغلق أبواب وتفتح أبواب ، وتعيش أحلام وتموت أحلام . وسوف يكون السودان ” سودانا ” بحق وحقيق حينئذ “

إنه ” الطيب صالح ” الرجل ” الصالح ” ،
” كفيض من فيوض النيل جاء .. غمر العرب لغة وشعوبا بمفرده ..
الروح السودانية ناسا ومساكن “

ظل كمرجل يغلي في ديمومة تحولات السودان وصراعاته ..

يتعايش في نفسه النقيضان ، الحزن والسعادة ..

وأقسى أنواع الحزن ما اقترن بالرثاء ، لا سيما إذا كان موضوع هذا الحزن وهذا الرثاء كائنا عظيما كبلادنا ، أنهكته أخطاء أبنائه ! وهكذا ، وكما قال ” لورد بايرون ” فإن ” أعذب أغانينا هي تلك التي تحكي عن أعمق الأحزان “

فكل مقال كتبه عن السودان ، قوس قزح من ألوان الجمال ، ونبوءة وكشف ..

يا قارئي أسمع إليه وهو يقول عن صفوة البلاد وسادته :

” كل واحد من هؤلاء الناس الأذكياء الأغبياء عنده ” مشروع شامل ” لإقامة مجتمع ” فاضل ” يدوم إلى الأبد . وما أداره ما الأبد ؟
ويقتلون أنفسمهم ويقتل بعضهم بعضا لتطغي أحلام على أحلام ” ..

ويقول : الفوضى هي أن كل شيء أصبح محتملا .

أن تنتمي إلى هذا الوطن البعيد المنال ، ذلك أمر عسير .
أن تكون سمعت زغاريد النساء في الأعراس ، ورأيت إنعكاسات الضوء على وجه النيل وقت الشروق ووقت الغروب ، أن تتذكر مذاق تمر ” القنديل ” ولبن البقر الغريض ، ورغوته معقودة على ” الحلابات ” ، ذلك أمر عسير .

وهؤلاء الزعماء النجباء الأذكياء الأغبياء ، ألا يحبون الوطن كما تحبه أنت ؟
بلى .

إذا لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه ، ويسعون إلى إعماره وكأنهم مسخرون لخرابه ؟

ويكشف ” الطيب صالح ” ويرثي ويفضخ صفوة البلاد ورأس رمحها وما فعلوه بالبلد :

الحرب اشتعلت وخمدت وبدأت ووقفت فهي تدور ولا تدور فالقتلى هم القتلى ، والجيوش هم الجيوش ، والطامح هي المطامح ، والمزاعم هي المزاعم . هي ليست حربا ولكنها ذكرى حرب أو إحتمال حرب ، شبت منذ أعوام ، وشبت منذ قرون وتشب الآن في مساحة طولها عشر دقائق وطولها الابد .

الزعماء السابقون والزعماء اللاحقون أضغاث أحلام ، ذكريات زعامات ..

و ” الطيب صالح ” له جمال مائز في الإستدراك ، وفي إستدراك آخاذ ينسرب إلى روح القارئ مؤنسا لطيفا واصفا واقع السودان :

احتمالات إمكانات ، ” لا صيرورة ” واحدة وجوه شتى في أزمنة غابرة هي اليوم وغدا شمس تشرق ولا تغيب ، بدر ليس له تمام ولا محاق ، نهر يجري وليس له منبع ولا مصب .
السراب في صحراء العتمور ماء حقيقية ، عبت منه أبل أبي العلاء المعري حتى ماتت من الري .
الزرع في حقول الجزيرة ينمو وأبدا لا يصل إلى درجة الحصاد .
الأمطار تهطل والأنهار تفيض ، ويعم الخير في هيئة مجاعة يموت فيها الناس من التخمة ، الطائرة لن تقوم وسوف تقوم ، وقت قامت بالفعل .

ما أروع هذه المدينة اللامدينة في هذا الوطن الذي هو كذكرى وطن أو كحلم وطن . وقد سألك الشاعر ، أنت بالذات ، دون خلق الله جميعا :

أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد ؟

يا سيدي فداك نفسي . لقد كنت كأنك لم تكن ، أما الآن وقد حيرني سؤالك زمانا فما وجدت له إجابة إلا الآن فقط ، في هذه اللحظة التي كأنها الأبد .

إن الحمامة قد بكت وغنت فما بكت ولا غنت لأن الغصن الذي حطت عليه في واد هو احتمال واد ، في وطن هو حلم لوطن .

الشعوب أمرها عجيب ، وهذا الشعب بالذات من أعجب الشعوب .

هنا ملتقى الحضارتين العربية والإفريقية ، كما يقولون هذا هو قلب إفريقيا ، ولكنه مثل قلب فيل مخدر .

متى يصحو هذا الفيل وينهض ؟
متى ينبض القلب ويضخ الدم بقوة كما حدث في العصور الخوالي ؟

وصدق ” الطيب صالح ” عندما قال ” الفوضى هي أن كل شيء أصبح محتملا “
فمشهديات واقعنا وأوضاع عيشنا المفضي إلى الكارثة تأكد على نصاعة حدسه ، الفوضى دخلت في البلاد منذ زمن بعيد

وبرأ ” الطيب صالح ” ساحته كمثقف أخلص لجوهر وظيفة المثقف في بلده :

” قدري أن أكون مواطنا لا أحمل ولاء للحكم القائم ولا للذين ينازعونه الأمر ويطلبون أن يحلوا محله ،

ولائي للوطن في صيرورته الأبدية . وما أصعب ذلك من ولاء ” .

من هنا تأتي عظمة ” الطيب صالح ” فهو مثقف بلا أي إعوجاج أو إختلال في أفكاره ، بذل نفسه للسودان وأهله من باب فرض العين الذاتي الواجب – كما أورد ذلك محمد عثمان الجعلي في مقالته : رواس مراكب القدرة ” ضو البيت ” وداعا أيها الزين – مهامه الوطنية لم تندرج – كما عند غيره – ضمن منظومة المندوبات والكفائيات بل من بل فرضت نفسها وقد جاءت تلقائية خالصة متحررة من ربقة الإلتزامات السياسية وإسار الإنتماءات الأيديولوجية وتعقيدات الأرتباطات القبائلية الجهوية كما لم تحركها الطموحات الذاتية – والحديث لا يزال لمحمد عثمان الجعلي – جاءت تلبيته لنداء الوطن من باب قناعة داخلية راسخة بأولوية المسؤولية الوطنية ، وهذا باب من البذل وجهاد النفس أسقطه المثقفون من أجندتهم مع رحيل المستعمر وهم يتهافتون ، وما فتئوا ، على خيرات بلادهم ومقدراتها حتى أتلفوها إتلاف وارث سفيه أحمق .

” جريدة القوات المسلحة الخميس 5 ذو الحجة 1442هجرية – الموافق 15 يوليو 2021م “

اترك رد