“سبع عشرة وقفة” حول رؤية الحرية والتغيير للحل السياسي.. فضيلة الشيخ د. حسن أحمد حسن الهواري

متابعات/ الرائد نت

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وبعد:

فقد أصدرت قوى الحرية والتغيير رؤية للحل السياسي بتاريخ السابع عشر من أكتوبر الجاري لهذا العام 2022م، وكنت أحسب أن قوى الحرية قد استفادت من الدروس السابقة وغيرت من نظرتها التسلطية والانفرادية لتعترف بالواقع وتتبنى مشروعات سياسية توافقية وواقعية وقريبة من الشعب السوداني وثقافته وتاريخه، لكنها للأسف بعد كل تلك التجارب والمتغيرات لا زالت على حالها في التفكير والرؤى، وقد طالعت الرؤية المشار إليها وأبرز سماتها العامة ثلاثة هي:
الأولى: العلمانية والبعد عن الاٍسلام الذي يدين به غالبية شعب السودان.
الثانية: التسلطية والانفرادية والدكتاتورية المتطرفة.
الثالثة: التشفي والانتقام والتمكين المضاد.
ثم دونت عليها جملة من الملاحظات أوردها في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: ملاحظة شكلية لكنها ذات مضمون ومغزى، ولا أظن أن الذين أعدوا الرؤية وصاغوها غافلين بل متعمدين، والملاحظة هي: أن الوثيقة المتضمنة للرؤية لم يُذكر فيها اسم الله، ولم تستفتح ببسم الله، وجعلوا بدلها شعارهم: “حرية سلام وعدالة”، ولم يذكر فيها الله سبحانه ولا مرة، ولم يُشَر فيها إلى الإسلام إطلاقا، كل ذلك والوثيقة مطروحة كما ذكر أصحابها في مخاطباتهم للشعب السوداني المسلم.

الوقفة الثانية: الاسم:
اختارت المجموعة التي أصدرت الرؤية أن تكون باسم الحرية والتغيير، ولم تقيد ذلك بالمجلس المركزي كما يقال في الإعلام، نعم الناطق الرسمي باسمهم لم يعترف بهذا الاسم “المركزي”، لكن من المؤكد أن الحرية والتغيير لم تعد جسما واحدًا، ولا اتفقت على هذه الرؤية، بل هي رؤية لفصيل من فصائلها، فهل ججلهذا الاختيار من مغزى؟.

الوقفة الثالثة: العنوان:
اختارت الحرية والتغيير للعنوان عبارة: (أسس ومباديء الحل السياسي المفضي إلى إنهاء الإنقلاب).
وهذا عليه ملاحظتان:
الأولى: هذا المسلك مخالف لأعراف الرؤى السياسية التي تُطرح بغرض الخروج من الأزمة السياسية وتستهدف الكتل السياسية والمؤسسات المدنية، والقطاعات المؤثرة في الساحة السياسية، ولا أحد ينكر الأثر الفعال والجوهري للمؤسسة الأمنية في القرار السياسي، والوثيقة من عنوانها تستبعد المؤسسة الأمنية بل تجرمها وتصفها بالانقلابية، وبهذا تكون قد فقدت واحدة من أهم أسس النجاح للحلول وهي التوافق والتصالح.
▫️الثانية: تصنيف ما قامت به المؤسسة العسكرية بالانقلاب أمر مُختلف فيه حتى على المستوى الدولي، فهو من وجهة نظر المؤسسة العسكرية إجراءات إصلاحية وهو رأي قوي، وسبق لي أن كتبت مقالة في هذا بعد إجراءات الخامس والعشرين، وذكرت توصيفها الفقهي في نظري، فمن غير المناسب أن تحمل الناس على رأيك في الأمور الخلافية وتبني عليه الحلول، هذا بلا شك مدعاة للفشل.

الوقفة الرابعة: رؤية الحرية والتغيير رؤية متحيزة ومتطرفة لأنها نابعة من قناعة لديهم، وهي في الواقع وهم محض، وهي أحقيتهم في التصرف في البلاد هم ومن يرتضونه، وتأسيسا على هذا الوهم المتطرف قسمت الشعب السوداني إلى أقسام:
الأول: قوى الثورة المناهضة لانقلاب 25 أكتوبر: ويعنون أنفسهم وأعطوها كامل الحقوق والتسلط على البلاد والعباد.
الثاني: الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام: وجعلتهم من الدرجة الثانية ولهم حقوق محدودة في حدود عملية السلام وترتيباتها.
الثالث: قوى الانتقال: وهي مصطلح عندهم لبعض من اقتنع ببرنامجهم السياسي من غيرهم وجعلتهم في الدرجة الثالثة وليست لهم أي حقوق في العملية السياسية سوى دور رمزي في المجلس التشريعي.
الرابع: المؤسسة الأمنية من جيش ودعم سريع وشرطة وأمن: وهؤلاء حقهم في رؤية الحرية والتغيير الإبعاد والإخضاع التام لسلطتهم والتصرف فيهم وفق ما يعرف بهيكلة القوات النظامية، وهي خطة لتدمير المؤسسة الأمنية وتغيير العقيدة القتالية لها.
الخامس: عامة الشعب السوداني من الجماعات الدينية والإدارات الأهلية والتيارات الإسلامية المتنوعة: وهؤلاء كلهم مستبعدون في الرؤية بل ربما مستعبدون ومتهمون ومحرومون من كل الحقوق السياسية، ومتوعدون بالإزالة والملاحقة والتحجيم وهلم جرا.
وبهذا التفصيل يظهر لك حقيقة هذه الرؤية وهي رؤية متطرفة وغير واقعية.

الوقفة الخامسة: الرؤية تعتمد الثلاثية والرباعية مسهلة وداعمة وضامنة، وكان الواجب أن تنبع كل الرؤى من داخل البلاد وأن تكون ذات طبيعة محلية ووطنية وأن تدعم من الداخل وتتصف بالانتماء لهذا البلد، ولا حاجة لأي تسهيل أو رعاية خارجية.

الوقفة السادسة: مرجعية الرؤية مشروع اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، وهو مشروع ليست له أدني شرعية، وفيه من الخلل القانوني والشرعي والتكريس لفصيل معين ومباديء علمانية الشيء الكثير، وبالرغم من أن هذا المشروع عارضه عامة الشعب وطوائفه، إلا أن المبعوث الأممي يزعم أنه يحظى بتأييد طيف واسع من الشعب السوداني، وهذا ادعاء محض لا حقيقة له، نعم يحظى بتأييد خارجي.
واعتماد رؤية الحرية والتغيير لهذا المشروع من أكبر أسباب الاختلاف على الرؤية ورفضها من قبل عامة الشعب السوداني ومؤسساته.

الوقفة السابعة: تضمنت الرؤية الإصلاح الأمني والعسكري ويشمل:
إيجاد جيش واحد قومي ومهني.
النأي بالجيش عن السياسة.
مراجعة النشاط السياسي للمؤسسة العسكرية والأمنية.
تنقية الجيش من عناصر النظام السابق.
إصلاح جهازي الأمن والشرطة وتبعيتهما الكاملة للحكومة التنفيذية.
ستصدر مصفوفة خاصة بالجداول الزمنية لتنفيذ هذه الأمور.
وهذا تأسيس لهيمنة تامة من قِبَل فصيل سياسي محدود على قدرات البلاد الأمنية والتحكم فيها بأهوائهم دون تفويض من الشعب السوداني ولا قانون ولا أدنى حق يخولهم شيئا من ذلك، وهذا وحده كاف في فشل هذه الرؤية.

الوقفة الثامنة: تضمنت الرؤية عملية شاملة للعدالة والعدالة الانتقالية وتشمل:
محاسبة المجرمين وتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية.
إصلاح الأجهزة العدلية بما فيها وزارة العدل والنيابة والقضاء.
تشكيل لجنة للتحقيق في الجرائم قبل وفي وبعد 25 أكتوبر و3 يونيو بدعم دولي فني ومالي.
وهذه إعادة للسياسة المتهورة الصبيانية التي بدأت بها الحرية والتغيير بعد التغيير وأوصلت البلاد إلى هذه الحالة من الأزمة السياسية وما تبعها من أزمات شتى، وهم لا يتوبون ولا يتعظون، ولا أدري على أي شيء يستندون ومن أعطاهم هذا الحق والتصرف الواسع في مؤسسات الدولة؟
لا خلاف بين السودانيين في ضرورة المحاسبة والمحاكمة العادلة لكل متهم حتى تثبت جريمته أو براءته، لكن الشأن من المسؤول عن توجيه الاتهامات وتحديد المجرم من غيره؟.

الوقفة التاسعة: تضمنت الرؤية إزالة تمكين نظام الثلاثين من يوليو ومراجعة القرارات الارتدادية عقب 25 أكتوبر، وهذا عودة إلى مربع التشفي والانتقام ودوامة تصفية الخصومات التي أعاقت السياسة السودانية منذ الاستقلال وأصبحت سمة بارزة فيها ومن أسباب الفشل الدائم في سياسة البلاد، مع ما يصاحبها من ظلم وبغي وإفشاء العداوة والبغضاء بين مكونات الشعب.

الوقفة العاشرة: تضمنت الرؤية التركيز على السلام الاجتماعي بما يعزز التماسك والتعايش السلمي ويؤسس للسلام الشامل بمشاركة كل أهل السودان.
وهذه الفقرة تتناقض تماما مع التي قبلها، إذ كيف يعم السلام الشامل كل أهل السودان والرؤية تقضي بالانتقام من مؤسسات رسمية ومدنية، بل هذا تأسيس للحرب والعداوة.

الوقفة الحادية عشرة: تضمنت الرؤية تبني نصوص دستورية وسياسات اجتماعية واقتصادية تنهي كافة أنواع التمييز وتحقق العدالة الاجتماعية والنوعية، وتلتزم الدولة بوضع السياسات والتشريعات لتحقيق المساواة بين الرجال والنساء.
وهذا من أكبر مواطن النزاع؛ لأن هذه السياسات مؤسسة على خلفية علمانية بعيدة عن ثقافة السودان وعقيدته ومخالفة للنصوص الشرعية والثوابت الإسلامية، ومثل هذه السياسات ستجعل الساسة وأحزابهم في حرب مع الشعب ومعتقداته وثقافته مما يسبب النزاع وعدم الاستقرار.

الوقفة الثانية عشرة: تضمنت الرؤية تشكيل مجلس سيادي تختاره قوى الثورة ويكون القائد الأعلى للقوات النظامية:
وهذا لا يستقيم لوجهين:
الأول: لماذا تختار مجلس السيادة ما يعرف بقوى الثورة، ومن خولهم هذا الحق؟
وأين حق بقية الشعب ومكوناته؟
وهل هذه إلا دكتاتورية ثورية؟.
الوجه الثاني: كيف يكون مجلس السيادة مدنيًا ومن اختيار قوى الثورة ويكون مع ذلك رئيسا للقوات النظامية، من أين له هذه السلطة ولا تفويض له من الشعب وهل ستقبل القوات النظامية بهذا الذل والهوان والاحتقار والاستعباد؟.

الوقفة الثالثة عشرة: تضمنت الرؤية تكوين مجلس الوزراء من كفاءات وطنية ملتزمة بمباديء الثورة، ويتم اختيار رئيس الوزراء بواسطة قوى الثورة، وهو يختار الوزراء بالتشاور مع القوى الموقعة على الإعلان السياسي، وحركات الكفاح المسلح الموقعة على سلام جوبا، ويراعى في الأعضاء التزامهم الصميم بالثورة.
أقول: أي استبداد وتسلط هذا؟
تأمل أيها العاقل اللبيب:
رئيس مجلس الوزراء تختاره قوى الثورة ولا حق للشعب في اختياره.
يتشكل مجلس الوزراء من شخصيات ملتزمة بمباديء الثورة.
الحق في تشكيل مجلس الوزراء لرئيس الوزراء الذي اختارته قوى الثورة بالتشاور مع القوى الموقعة على الإعلان السياسي وحركات سلام جوبا.

تسلط مطلق ودكتاتورية عمياء، ولا أدري بأي وجه يتكلم هؤلاء عن الديموقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان؟.

الوقفة الرابعة عشرة: نصت الرؤية على أن المجلس التشريعي يستثنى من التمثيل فيه أعضاء المؤتمر الوطني بكافة أشكالهم وواجهاتهم ومسمياتهم.
أقول: الذي أعلمه أن المؤتمر الوطني نفسه لا يرغب المشاركة في الفترة الانتقالية، وسواء رغب أم لم يرغب فهو مستبعد.
لكن السؤال هنا: ما المراد بكافة أشكاله وواجهاتهم ومسمياتهم؟
هذه جمل مبهمة ومطلقة وتعبيرات واسعة غير منضبطة ولا مرجعية في تفسيرها إلا هوى الحرية والتغيير، وعليه يمكن أن يحظر عامة الشعب ممن لا يتفق مع الحرية والتغيير تحت هذه المسميات المبهمة التي لا تفسير لها، وهل هذا إلا احتيال وتطاول وعزل للشعب السوداني بغير وجه يعتبر سوى مخالفة الحرية والتغيير، ويغلب على الظن أن الحرية والتغيير ستُدخِل تحت هذه المظلة المظلمة الظالمة كل من ينتمي للإسلام خاصة من خالفها ولم يتفق معها.

الوقفة الخامسة عشرة: قررت الرؤية أن يكون نظام الحكم فدراليا لا مركزيا، وعقد مؤتمر لنظام الحكم والإدارة.
أقول: هذه قضايا كبرى في شؤون حكم البلاد ومستقبلها فكيف تقضي فيه مجموعة صغيرة غير منتخبة ولا مفوضة ولا حصلت على توافق ولا استفتاء شعبي؟
هذا في نظري عبث سياسي وعدم نضج وتغول بالباطل.

الوقفة السادسة عشرة: إنشاء مفوضيات متعددة منها مفوضيات خاصة بالفساد، والدستور، والحريات الدينية، والمرأة، والمساواة، والعدالة الانتقالية، والانتخابات.
أقول: في ظل نظام استبدادي وتسلطي وانتقامي وانفرادي ستكون كل هذه المفوضيات أدوات للتسلط والتمكين لا غير، وإذا كانت الحرية والتغيير تدعو لإزالة التمكين وتتبناه بقوة فكيف جاز لها أن تسعي بذات القوة لتمكين من نوع آخر؟
هذا تصرف مناف للعدل والعقل والسياية.

الوقفة السابعة عشرة: تضمنت الرؤية تشكيل مجلس الأمن والدفاع برئاسة رئيس الوزراء، وعضوية وزارة الدفاع والخارجية والداخلية والعدل والمالية والحكم الاتحادي وهيئة أركان القوات المسلحة ومدير عام الشرطة ومدير جهاز المخابرات وممثل الدعم السريع، وربما الحركات المسلحة الموقعة على سلام جوبا والنائب العام. أقول: بدهي أن رئيس الوزراء الانتقالي الذي تتحكم فيه جهة محدودة من الشعب السوداني لا يصلح له أن يرأس مجلس الأمن والدفاع، وبدهي أن ترفض هذه الجهات وخاصة وزارة الدفاع والداخلية وهيئة الأركان ومدير عام الشرطة ومدير جهاز المخابرات؛ لأن هذه الوحدات والمؤسسات لا يمكن أن تخضع لسلطة غير منتخبة ولا هي شريك في تكوينها، وإلا يكون هؤلاء قد سلموا رقابهم لغيرهم وسلطوه على أنفسهم وهم يعرفون نواياه تجاههم، ويكونوا قد رهنوا مصير البلاد بأسرها لهذه المجموعة المتطرفة.

تلك أبرز الملحوظات فيما يظهر لي على رؤية الحرية والتغيير، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.

نشر بتاريخ: ٢٦ ربيع الأول ١٤٤٤هـ، الموافق 2022/10/22م

فضيلة الشيخ الدكتور: حسن أحمد حسن الهواري حفظه الله

التعليقات مغلقة.