حديث المدينة | عثمان ميرغني يكتب: هندسة الدولة
متابعات/ الرائد نت
عصر أمس الأول ، الأحد، تشرفت برئاسة جلسة إسفيرية استمرت لأكثر من ست ساعات كاملة، بمناقشة “مشروع النهضة بالسودان، من التحديات الى الفرص) الذي أعده منتدى البحوث الاقتصادية بالقاهرة ويتولى إجراء دراسات وبحوث بدرجة عالية من الاحترافية والعلمية لقضايا التنمية في مختلف الدول العربية.
قرأت التقرير الكامل -رغم طوله – ثم استمعت لخبراء متخصصين أغدقوا من معارفهم وخبراتهم على المحاور التي تناولها التقرير.
الذي أثار انتباهي وظل يشغل تفكيري طوال الملتقى، إن كان ممكناً أن تنجز الكفاءات والخبرات الوطنية والأجنبية مثل هذه الدراسات المتخصصة الدقيقة، فلماذا لا نبني دولتنا على هدى ما تنتجه العقول المتخصصة لا الساسة المتلهون بالأزمات والكر والفر في ميدان الكسب والتكسب السياسي؟
الأمر لا يحتاج إلا قدراً من “هندسة الدولة” State Engineering بحيث تتصل وتنفصل مكوناتها في المواضع التي تعظم العائد الكلي لا التي تعطل الحركة والتنمية.
بعبارة أخرى؛ مثل هذا المشروع النهضوي الذي أنجزه المنتدى البحوث الاقتصادية لا علاقة له بمن في الحكم منتخباً أو منقلباً أو منتقلاً (منتقلا= انتقالي)..فطبيعة العمل والمشروع تتعلق بالدولة لا بـ”من” يتحكر و يحتكر قيادتها.. هو ذات ما ظللت أكرر المطالبة به، فصل المسار السياسي عن الإداري، حتى لا تتعطل حركة الدولة (لم أقل الحكومة) مهما كانت تعقيدات الوضع السياسي.
وبالمنطق الصريح، إذا كانت 66 سنة منذ الاستقلال لم تكف لتبلغ الممارسة السياسية في السودان سن الرشد المانعة لدورات النظم التعددية مع الشمولية، فلماذا يتجمد السودان مائة سنة أخرى في انتظار هذا الرشد، الأجدر أن تكون المعالجة من خلال “هندسة الدولة “State Engineering” بحيث لا تتعطل حركة التنمية والنهضة بتقلبات النظم الحاكمة والسياسة.
الهندسة المطلوبة هنا هي أشبه بهندسة الطرق والمرور في المدن الكبيرة المزدحمة، غاية الفكرة الهندسية هي انسياب الحركة من مختلف الاتجاهات ولمختلف المركبات وبمختلف الأغراض دون أن يؤدي تقاطعها لتعطيل الحركة. فتكون هناك الطرق السريعة والطرق الرئيسية داخل المدن ثم الفرعية وطرق الخدمة لتسير كل مركبة في ما يناسبها وفق ظروفها، لكن بالمسار الذي لا يعطل الآخرين.
أعجبتني مداخلة من البروفيسور جفري ساكس ، أمريكي الجنسية كان مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة في برامج التنمية المستدامة، إختصر الأمر في أن أولويات النهضة ست: التعليم – الصحة والتغذية- الطاقة – الزراعة – البنى التحتية للمدن- التحول الرقمي .
تتداخل وترتبط ببعضها بصورة عضوية.
ولإنجاز النهضة فيها نحتاج لثلاثة عناصر مهمة: التخطيط- التمويل- والثالث هو مربط الفرس لأنه بيت القصيد في واقعنا اليوم.
الثالث: هو الإطار السياسي الداخلي : الذي ينبني على “إجماع ذكي” من مكونات المجتمع الدولي ونظائرها السودانية، وهنا العقدة الحقيقية.
من السهولة في السودان أن نحقق “الإجماع” لكن ليس “الذكي” كما وصفه البروفيسور جفري ساكس.
فالسودانيون يفتخرون دوماً بأنهم عند الملمات يحققون “الإجماع”، ويضربون مثلاً بإعلان استقلال السودان من البرلمان في عز هجير أزمة سياسية وخلافات طاحنة، ويتفاخرون أحياناً بأن ساستهم – في العهود الحزبية- يتشاتمون في الجمعية التأسيسية نهاراً ويسهرون معاً ليلاً في حلقات السمر والأنس الاجتماعي.. وهذا هو عين “الإجماع” بدون “ذكي” .
كيف نحقق “الإجماع الذكي” Intelligent Consensus ؟
الأمر يحتاج إلى إعادة “هندسة الدولة”..