من أعلى المنصة | ياسر الفادني يكتب: غريبة الدنيا
الخرطوم/ الرائد نت
اقول الكلمة ما تاهت خلاص في الظَلْمة ، هو شطر بيت نظمه الشاعر المتفرد والمبدع حاج حمد أحمد بانقا وأكمله بعجز قال فيه : واعاتب الليل دا ما ليلاً طويل ياسلمي … وبذلك أكمل البيت الأول من رائعة الفنان الراحل المقيم عبد المنعم الخالدي وخرجت أغنية ( يا سلمي) ، الأغنية التي وضع بصماتها الموسيقية واللحنية المبدع الملحن سليمان أبو داؤود
الأغنية هي عسل من نهر مصفى صاغها شاعر يمتاز بحاسة البعد الخامس ، الكلمة والتحلق الشعري واللغة الجميلة والمفردة اليانعة والحضور الشعري المتميز ، ودبانقا (واحد) من الشعراء الذين لم يلقوا حظهم كغيره من شعراء بلادي في التسليط الضوئي القوي لسيرته وإبداعه ، المتفرد حاج حمد كان مثقفا ومتعدد المواهب وهو فنان تشكيلي إمتلك ريشة الجمال ونظم المفردة الجذابة ، وهو طبيب شعبي أشتهر كمعالج بالأعشاب ، كتب أشعارا غنائية منها (سلمى ) و(ما هويتك) لعبد المنعم الخالدي وأغنيات أخرى لعبد العزيز داؤود وعبد القادر سالم وعثمان الأطرش ، الشاعر حاج حمد غار في سبر غرابة الدنيا في قصيدة سلمي وقصد تلخيص الدنيا من خلال هذه الأغنية التي كانت من أبرز أعمال الفنان الخالدي بل كانت سببا في شهرته…
الملحن سليمان أبو داؤود الذي لحن هذه الأغنية هو ملحن يمكن أن نطلق عليه صفة الملحن الاستثنائي ، لحنه سلس وعذب ورقيق على القوافي والمفردات والجمل الشعرية ، ولعل أغنية سلمي إنسابت في قلب وأذن من سمعها وانصت إليها كما النسيم العليل الذي ينساب علي الأنفاس والوجدان طربا ونشوة ووجدا ، مقدمة لحن الأغنية كانت إفتتاحية وصفت الشخصية وهيئت المسرح لحضور الأغنية ، سليمان أبو داوؤد إتبع هنا نهج الموسيقي ( البينية) ولعل هذا النهج لايسلكه إلا متمرس حيث أنه أحدث تغيير مفاجيء في اللحن وفي درجة إرتفاع الصوت والتوزيع الموسيقي اتضح ذلك في الكوبلي الأخير من الأغنية والتي شدى الخالدي بها ودندن بسرد صوتي جذاب ( غريبة الدنيا ) وكررها ، التكرار هنا أضاف لمسة جمالية راقية وشدَّ إنتباه المستمع ، ونقل المستمع إلي طريقة قانون الإغلاق (clousre) أو مايعرف بالقفلة وشعور المستمع بالختام السلس عبر تتابع النغمات التي تشير إلى النهاية الطبيعية
الفنان عبد المنعم الخالدي ولد في قرية شلعوها الخوالدة ، أعطته الحياة التي عاشها والخضرة التي تحيط بجنبات قريته نبرات صوتية عجيبة ، رسم لنفسه أسلوبا مميزا أعانه صوته الفخيم الرخيم المعبا بالحزن الذي يمس الدواخل ويستقر في أعمق أعماق الوجدان دون استئذان ! ،الخالدي كان في حلقه غصة ظاهرة…. لا لشييء إلا أنه أحس بالألم وعاشه وتغني به من قلبه فوصل القلوب
عشت متالم معاك واصلي في حبك مسافر
وانتي سعد الدنيا كلو يا أمل ماليهو آخر
اغنية سلمى بدات بتجسيد الحالة والعتاب و إنتهت ببث الشكوي من الدنيا الغريبة وما بينهما جمال عبارات وحنين أشواق ، وختم الجمال اللفظي الراقي حينما دندن :
غريبة الدنيا….
كم عاشق صبح طربان تبكيهو
وكم ق.لبا منور شوقو تطفيهو
وكم وعدا يقرب يبقي تلغيهو
مثلما تهاجر الطيور في موسم الرحيل المفروض عليها طوي عبد المنعم الخالدي صفحته ومضي في هدوء ومازال صوته الشجي وفنه خالد فينا ، ولا حول ولا قوة الا بالله .