شهداء المنفى.. وقراصنة الوطن الشريف حسين الهندي.. غادة السمان تكتب..

0

متابعات/ الرائد نت

(1) كما في الدراما الاغريقية ، كان القدر هو الذي يقود خطواتي في شوارع أثينا تلك الأمسية الدامعة بالمطر .. وكنت أمضي إلى المأساة بنفسي ، وأجهل أن ستارة المشاهد الأليفة ستنفتح فجأة على مشهد يوقظ أحزان القلب الموغلة في الأعماق .. ويخرج عرافات الذاكرة من أوكارها في بوح مرير ، أين منه بوح عرافات (دلفي) ..
كما في الدراما اليونانية ، لم أكن أدري أن أمسية التسكع الهادئة تلك ، ستتحول إلى طعنة مسددة بإتقان نحو صدر النسيان .

(2) لا إدري ما الذي قاد خطواتي من “ساحة الدستور ” (السينتاغما) إلى شارع (الستاديو) ، سرت طويلا تحت رذاذ المطر الشفاف كدموع سرية ، حتي وصلت إلى ساحة (أمونيا) ، وتابعت تجوالي فيها .
كنت أحدق في و جوه الناس ، ووجوه الاشجار ، ووجوه الجدران والأرصفة والأعمدة والسيارات .. وكانت المدينة تنزلق إلى الغروب ، وكنت أنزلق إلى سكينة نفسية لها مذاق الغيبوبة العذبة ، حين وقعت نظراتي مصادفة ، علي لافتة معدنية من كلمات ثلاث تقول : (فندق الملك مينوس) ! كانت العبارة مكتوبة بحروف لاتينية نحاسية صفراء ، وملصقة علي جدار رخامي صلد ، لا نا فذة فيه ، ولا شهقة ! وكان ضؤ الغروب الشاحب ينسحب عن ساعة (أمونيا) الممتدة أمامي ، كما ينســحب اللون من الوجه لحظة الدخول في الإغماء .. ودخلت في الصحو دفعة واحدة !

(3) ” فندق الملك مينوس ” !
إذن هنا سقط شهيد المنفى ، الشريف حسين الهندي ، ذلك الإنسان النبيل الذي لم ألتق به إلاَّ في سطور محبيه ، وعيون تلامذته .
وفكرت بأ سى : لو كنت على هذا الرصيف قبل شهر ، لصافحته ، وخيِّل إليَّ أنني أسمع غراب “إدغار آلن بو ” ينعق : ” لن يكون ذلك بعد اليوم ” ..آه ، لن يكون ذلك أبداً .

(4) لماذا قادت المأساة خطواتي إلى هذا المكان ؟ توهَّمت – بل تأ كَّدت – أنني أسمع الضربات التقليدية للقَدَر ، التي ترافق رفع الستارة في المسرح الإغريقي الدرامي .. هذه الأمسية ، تمزقت الستا رة عن جرح شاسع ، ينبض كفاحا معذبا ، جرح إسمه ” شهداء المنفي العرب ” .

(5) بدأت أتأمل المرئيات بعين جديدة ، هذه الساحة بالذات ، تجمع شمل الناس الذين عاش الشريف الهندي لأجلهم ، ومات وسطهم .
إنها ساحة البسطاء ، يهرولون وراء لقمة العيش والحُلم ، وجوه طيبة ، وجوه كادحة ، وجوه معذَّبة ، وجوه أدمتها قسوة الواقع ، وزرعت في حناياها بعض شراسته ؛ وجوه كسرها الزمن . أيد خشنة تقبض علي خبز الأسرة ، وتختفي تحت المطر . ساق مقطوعة ، وعكاز قافلة من المتعبين والخاطئين والأبرياء ، والناشلين الصغار والمساكين ، والحائرين الذين يجهلون قراءة أعماقهم ، وربما قراءة الجريدة !
من أجل هؤلاء يعمل المناضلون جميعا ويتشردون. ولأجلهم نذرالشريف الهندي حياته ، وكان موته بينهم ، محاطا بزحامهم وعذاباتهم وأفراحم وأحلامهم المتواضعة الصغيرة … بحجم طابع البريد .

(6) كما في الدراما اليونانية ، كان القدر يقود خطواتي تلك الأمسـية الأثينية الماطرة ، ليسمِّرني أمام لافتة عادية ، تحرك في النفس مأساة عامة غير عادية .. إسمها (شهداء المنفي) ، مأســاة فجَّرتها في نفسي ، ذكرى إنسان عمِلْت في منبر يحمل بصماته ، ولم أعرفه ، ولم ألتق به ، وها أنا أوزوره ذات ليلة ماطرة … بطريقة رمزية موجعة ، أتلفت حولي كمن كان يمشي أثناء نومه ، وأستيقط فجأة ..
أمام مدخل الفندق أربعة أحواض تضم نباتات خضراء .. وها هو الباب الدوار الذي إجتازه ماشيا ذات غروب ، وغادره محمولا .. وكالمسحورة ، وجدتني أدخل إلى بهو الفندق ، عم كنت أبحث ؟ عن صوت ؟ عن ظل ؟ عن شبح ؟ لا أدري ‍‍‍. كانت المرئيات شديدة الوضوح كما في الكوابيس ، ردهة الفندق رمادية الجدران ، وأرضها أيضا رمادية المرمر .. إلى اليمين سبورة تحمل بعض الاعلانات والأوراق ، توقفت أمامها كأنني توقعت أن أجد رسالة أو إشارة ، لعل الإشارة كانت هناك ، لكنني لم أُحسن قراءتها .. وكلها مكتوب بالألغاز (أم باليونانية ؟!).. وثمة سِلِّم تعلوه نجفة كبيرة ، يقود إلى الغرفة 222 ؟ .. إلى اليسار طاولة الاستقبال المستطيلة جدا ، وخلفها رجل يحدق في وجهي بفضول ، ولعله الرجل ذاته الذي استقبله منذ شهر . وخلفه ، أعلى الحائط ، جدرانية تمثل رواقا إغريقيا بأعمدته النافرة ، وباحاته وأقواسه .
ويســألني الرجل شــيئا ما باليونانية ، لعله: “ماذا تريدين ؟” .. قلت له بالعربية : ” لا أعرف بالضبط ” ! وغادرت الفندق ، وقرب الباب ثمة طاولة تتوسطها آنية نحاسية للأزهار ، ولاحظت أن الورود فيها كانت ميتة .

(7) ماذا أريد من الفندق؟ إنه مجرد فندق آخر (آه ، ليس تماماً) . يتدخل المنطق المحايد: حسنا . إنه نموذج آخر لسلسة (فنادق الغربة) اللامتناهية ..
غادرته وتوقفت قليلا أمام بائع الألعاب المجاور . فبائع التذكارات . فالصيدلية .. وموكب الكادحين على الرصيف العتيق ، يكاد يجرفني كالموجة . بدأ كل شيء رمزياً تلك الأمسية . بائع الألعاب .. للعبث ؛ بائع التذكارات .. للرومانسية ؛ الصيدلية للذين ما زالوا يحاولون جاهدين مداوات أوجاع الوطن . والجماهير تمضي وقلما تلتفت إلى أوجاعهم إلاَّ بعد موتهم ! ..
وصار المطر ينهمر منتحباً ، وبائع الصحف لملم أشياءه ، والناس يركضون مسرعين في الاتجاهات كلها. قلت لنفسي : تفرقت الجنازة مؤقتاً، فعودي إلى وكرك في هذه المدينة ، واحجزي لنفسك غرفة في فندق الغربة ، كأن يكون رقمها 222 !
مشيت من جديد باتجاه ساحة (أمونيا) ، وكأن البائع العجوز للأشرطة المسجلة (الكاسيت) تعاطف وهمِّي ، وها هو يقدم لي رشوة باللغة العربية: أم كلثوم تصرخ (آه) بكل ما في حنجرتها من طاقة على الاحتجاج !
لم تعد الـ (آه) تجدي .. لقد تجاوزنا هذه المرحلة منذ زمن بعيد ، ونضجت الجراح على أشجار الغضب ، وحان قطافها !

(8) كما في الدراما الإغريقية ، الموت الفردي يتسع ليشمل الجماعة بمدلوله . واستشهاد الشريف الهندي في الغرفة 222 ، على بعد أمتار مني ، يذكرني باستشهاد مئات من رفاقه ، في بقية غرف الوطن والمهجر والمنفى .. من الغرفة رقم 1 إلى الغرفة رقم ( لا نهاية ) . هذا يموت في المعتقل بين يدي سجان الوطن ، وذاك يموت في المنفى بين يدي سجان الغربة . هذا يقتل برصاصة القمع ، وذلك برصاصة صامتة من مســدس الغربة . هذا تغتاله كوارث الوطن وغصـاته ، وذاك كوارث الغربة ولوعاتها . أفكر – بحنان – بعشرات من أحبائي ، وأصدقائي العرب الذين هاجروا من أوطانهم ، لمواصلة الكفاح من أجل ذلك الوطن . وأفكر – بحقد – بعشرات من قراصنة الوطــن المقيــمين على أرضــه ، يمتصون دم ترابه ، وضَوْء شبانه وفرحة أهله .. ويحتكرون ثماره .
ذلك الشهيد في فندق الغربة ، مد يده من نافذة غرفته المعتمة ، ليفكَّ جرحي قطعة بعد أخري .. وها أنا أتذكرهم صديقاً بعد الآخر ، أولئك الذين قد يموتون في فنادق الغربة قبل أن يشهدوا فجر تحرر أوطانهم … أولئك الذين ضحوا بأموالهم وبيوتهم وأسرهم وسلامتهم الشخصية ، ورفاق طفولتهم ؛ ورضوا بالغربة وعاء مراً للنضال العذب .

(9) ذلك الشهيد في (فندق الغربة) ، الذي مات وهو يمارس الأهداف التي طالما آمن بها … ذكرني أيضاً بالوجه الآخر البشع للغربة ، كما الضوء يذكِّر بالظلمة ، والشيء يذكِّر بنقيضه . تذكَّرت (غربة) الذين يغادرون أوطانهم لتدميرها من الخارج ! إنهم الوجه الآخر لقراصنة الوطن .. وهم يتسترون خلف الشعارات ويتشبهون بالمناضلين الحقيقيين دونما جدوى ، ويصنعون من الكلمات والنظريات قفازات لممارسة السرقة !
ما كل من غادر وطنه مات شهيداً . ثمة فارق بين القتيل والشهيد . وبين القاتل والبطل . وثمة فارق بين الذين يهاجرون للكفاح من أجل الحق ، والذين يهاجرون للبطر والنسيان .. والهجر أو للتخريب .
أنه الفرق الذي لا ينسى بين شــهداء الوطن والمنفى . وبين قراصنة الوطن والمنفى . ثمة فارق أيضاً بين المجاهدين في (الخارج) ، واللامبالين في (الداخل) ، فالمجاهد المغترب لم يغادر وطنه حقاً .. ما دام الوطن يســكنه في أعماقه ، أما اللامبالي ، فإنه يقطن الوطن فقط ، دون أن ينتمي إليه حقاً .. أو يعي ذلك الانتماء ..

(10) لماذا قاد القدر خطواتي تلك الليلة ، إلى هذه المتاهة من الخواطر والأحزان ؟ وبعدما كنت سائحة هادئة ، تحولت في ومضة عين إلى غاضبة ومقهورة ، وجراحي اللاملتئمة تنزف ضد الذين يحولون الوطن إلى فندق للبيع ، ويقتلون المناضلين في فنادق الغربة . كل منا مرشح مهاجر .. ومشروع متشرد ، ما دامت ثمة أنظمة تغتال النبتات التحررية في الوطن العربي ، وتتآمر ضد كل من يصهر كفاحه ، من كفاح المناضلين في القارات كلها .
تذكَّرت كيف كففت عن زيارة لندن ، منذ اللحظة التي راودتني فيها فكرة الهجرة إليها .. من العنف البيروتي الأعمى . فجأة تحولت لندن في خاطري من مدينة عشقتها كسائحة، إلى منفى محتمل ، بل وشبه مؤكد ! .. وصرت اتجنَّبها وأخاف منها وأُحار ، أيهما أقل مرارة : الموت بلا معنى ، في وطن يحولونه إلى فيلم للرعب ، أمْ الموت في فندق الغربة .. ميتة مجدية وذات معنى ؟

(11) إن موت هذا المناضل .. يفتح جرحاً عربياً عميقاً وشاسعاً ، زاخراً بالتراث النضالي لأمتنا .. موته نموذج للموت العربي المعاصر ، حيث الاستشهاد ممكن في كل مكان .. في الوطن .. والخندق .. وساحة الحرب .. وفندق المنفى ! وموته تذكير بالفجائع التي يجرها علينا بعض قراصنة الوطن ، من مقيمين مغتربين أيضاً ، بإصرارهم على سرقة الأرض بحجة (تحريرها).

هذا الرجل الذي وُلِد في أفريقيا وأحبها ، وحالف آسيا وحمل همها ، ومات في أوروبا ، يذكِّرنا بعشرات النبلاء أمثاله ، الذين تساقطوا قبله في الغربة ، وسيتساقطون بعده في الغربة ، كي يردوا الوطن إلينا من غربته ! لأجله ، ولأجلهم جميعاً أُصـَلِّي ، وصوتي الريح ، وقلبي قصبة مثقوبة … وأتساءل بحزن غاضب : تُرى من الشهيد القادم ؟ في أي منفى ؟ أي قدر ؟ أية غربة ؟ أي فندق ؟ وما رقم الغرفة هذه المرة ؟

اترك رد