بشارة جمعة أرور يكتب: تصحيح المسار السياسي

0

الخرطوم/ الرائد نت

حل الأحزاب و إعادة تكوينها ضرورة وطنية ملحة

يمر السودان بعد عقود من الإستقلال بأكثر مرحلة حرجة من مراحل تطوره السياسي وهو يعيش واقع الانقسامات المتعددة في كل شيء ويواجه خطر حقيقي يهدد وحدة الوطن، وهذا الواقع لم يأت من فراغ وإنما هو نتاج طبيعي لمسيرة الحياة السياسية العريجاء، ليعكس ويوضح لنا أن نشوء الأحزاب في السودان لم يقم على فكر أو رؤى ومبادئ أو فلسفة سياسية ترسم مسيرة البلاد،وهنالك أمر آخر أصبح سمة مميزة للأحزاب التقليدية في السودان وهي حاكمية وسيطرة الأسرة ومبدأ التوريث غير المكتوب وغير المنصوص عليه مع غياب الديمقراطية داخل الحزب، وانتقال ذات العدوة إلى الأحزاب الأخرى حيث يستمر رئيس الحزب أو قائد التنظيم إلى أطول فترة ممكنة حتى يقبض ملك الموت روح صاحب الكاريزما القيادية والقدسية السياسية ليدخل الحزب في حالة الاختلافات والصراعات وعدم الاستقرار…،ومع ذلك يتحدثون عن ممارسة الديمقراطية،وبالرغم من ذلك نقول أن الوضع الماثل في السودان اليوم هو أيضا مسؤولية الكل ولكن يتحمل القسط الأكبر منه القوى السياسية التقليدية وقياداتها، لأنها هي التي وضعت البلاد والعباد في هذا المحك والوضع الذي يمر به الوطن وحكمت أيضاً على الحركة السياسية بالموت البطيء والتلاشي، بل أهانوا كرامة الإنسان السوداني وتلاعبوا بمقدرات الشعب،حينما إِسترهنَوا موارد ومقدرات البلاد للأجنبي وكل من يدعي أنه شقيق أو صديق، ثم تقاعسوا عن القيام بالأدوار المناط بهم، ألا وهي اقتحام الصعاب و تذليلها مع بذل الجهود لطرح الرؤى والمبادرات لتحقيق المصلحة العامة للبلاد…
وعليه لا مفر اليوم من التصحيح والإصلاح السياسي، ولكي نقوم بالتصحيح والإصلاح، لابد من الاعتراف بالعلل وضعف عطاء الأحزاب والتنظيمات السياسية لنواجه هذا الواقع السياسي المتردي وصورة الدولة التي صارت مشوهة في كل المجالات لدرجة مساواة الذين يعملون بالذين لا يعملون وربما أصبح الذين يعملون هم الأكثر عرضة لخسارة الكثير من حقوقهم دون أي وجه حق سِوى أنهم لا يمتلكون تلك الحناجر التي تصدر الأصوات الصاخبة وتطلق الأوهام وتوجه الانتقادات والتجريح المتعمد بقصد التقليل من شأنهم وتبخيس الناس أشياءهم…
لذلك نقول وبالصوت العالي والداوي إنه بات من الضرورة حل الأحزاب والتنظيمات السياسية كافة في هذه المرحلة ومن ثم إعادة تأسيسها وتكوينها على أسس وقواعد جديدة منعاً لتزايد ظاهرة تضخم أمراض المنافع والمصالح الشخصية والصفوية التي أقعدت ودمرت القوى السياسية فصارت مجرد مصادر و وسائل للتواصل والتكسب،و كذلك صار التخلي عن الأسس الأخلاقية للممارسات السياسية ومعالجة المشكلات وبطرح الأفكار والاراء السديدة ، من فقه الضرورة حتى أصبحت سمة من سمات وصفات القادة في الأحزاب والتنظيمات السياسية، لذا تجدهم أول من يزيحون المبادئ ويهدرون القيم التي يبشرون بها ويضعونها على الجانب ولا يحرصون على الإستمساك بها بحجة أن إدارة الصراعات الأيديولوجية مع الخصوم يقتضي ذلك…، وريثما تنتهي مهمة القضاء على الخصوم السياسين من الخارج، تظهر الخصومة داخل الأحزاب والتنظيمات السياسية وهؤلاء الخصوم أشد خصومة وشراسة من أولئك الأعداء لأن السبب هنا تصرفات و السلوكيات القيادة التي تدرجت حتى وصلت إلى درجة فقدان الموضوعية والتجرد في الالتزام بالمبادئ والقيم النبيلة التي آمنوا بها، لذلك كثرت عملية الانشقاقات والانسلاخات وسهولة تكوين الأحزاب والتنظيمات السياسية بسبب ضعف الدور السياسي للحزب في معالجة الأمور والقضايا الوطنية مع الغياب التام للكوادر في تحمل المسؤوليات والقيام بالواجبات وحقوق الوطن ، وهذا التراخي يشكل أكبر تهديد وأخطر أنواع المخاطر التي تهدد إستقرار الأوطان وتماسك الأحزاب فيتحول هذا الأمر إلى إحساس قاتل للأعضاء عندما يشعرون بالخواء الفكري وضبابية الرؤية لدى قيادة الحزب على وجه الخصوص وفي الواقع السياسي على وجه العموم، وبالتالي يؤثر ذلك على رغباتهم في الإستمرار…وغالباً ما ينتهي بهم إلى تغليب نظرية التحرر من قيود الانتماءات السياسية لصالح ممارسة السياسة بدون أي تقيد وانتماء إلى أي جهة أو مؤسسة سياسية وهذا يعتبر خسارة لا تضاهيها خسارة لأنه يعتبر إهدار للقدرات والمهارات وتبديد للطاقات…
والمعلوم للجميع أن القيادة السياسية بمثابة المعلم للمجتمع، والحياة السياسية تصبح ممجوجة وبلا قيمة حينما تفتقر إلى القادة العظماء الملهمين للجماهير والشعوب بتهيئة المناخ وتوفير الظروف والعوامل الضرورية التي تساعد الأعضاء على أكتساب المهارات والقدرات وإمكانية توظيف الفرص وتطبيق الأفكار والمبادرات لتحقيق المصالح الوطنية، وكذلك يبدو النسق التنظيمي مختلاً إذا فقد المفكر والمرشد، وهذا الاختلال يؤدي إلى التصدع ثم الانهيار،طالما القيادات في القوى السياسية التقليدية ظلت في حالة انشغال تام بمشكلاتها الخاصة وهمومها الذاتية ومستجهلة لقواعدها و تتمادى في عدم تفعيل مشاركة القيادات الوسطى والنشطاء في الممارسة السياسية و تبادل المواقع في إدارة مؤسسات وأجهزة الأحزاب السياسية باعتباره نوع من أنواع التدريب على المحكك كبيان بالعمل واختبار لقدرات وخبرات الكوادر ثم العمل على صقل مواهبها وتجاربها والاعتِناء بتربيتهم سياسياً…،والملاحظ أن تلك القيادات كانت ومازالت تسعى إلى كسب القدسية أو الاستدامة والبقاء في مواقعها وكثيراً ما تمانع وتستميت في عدم إتاحة الفرص لتبادل الأدوار والوصول إلى المراكز القيادية العليا تبعاً لمقدار الجهد وحجم العطاء للأعضاء على قدم المساواة، واليوم تمارس ذات الإهمال والتماطل المتعمد…، بل تعطل أحيانا توزيع المهام وإقامة المناشط التدريبية والتنشيطية كل ما كان الأمر لا يصب في مصلحتها،وبهذه الطريقة ومع إستمرار هذه الحالة تشكلت الأسباب و توفرت الظروف الموضوعية المناسبة للانسلاخات وتساقط العضوية…،وهكذا ظل ينفرط عقد الأحزاب والتنظيمات السياسية نتيجةً لغياب التلاحم السياسي وتعاقب الأجيال عن طريق تلاقح الأفكار وتبادل الآراء و وجهات النظر والمقترحات المتجددة في إطار تصحيح المفاهيم حسب تطور المواقف و تجدد ضرورات العصر في ظل تناقض الثوابت مع المتغيرات بجانب إعادة صياغة قواعد التفكير والتعاملات ليستمر العمل السياسي بروح الفريق الواحد المتجانس والمُرصِّع بالرؤى المتجددة لتحقيق الأهداف والتطلعات الموشحة بالطموحات والأمنيات المتمددة بالعزيمة والإصرار لبلوغ المرام والمبتغى من الغايات السامية،ولكن في ضوء عدم وجود ترتيب لتلك السلسلة المذكورة أعلاه، من الطبيعي أن تزداد الشروخ إتساعاً فيتشرذم الحزب أو التنظيم إلى تيارات ثم كيانات بل إلى مجموعة تنظيمات أو أحزاب تحمل ذات الإسم مع إضافة كلمة أو كلمتين في نهاية المسمى بغرض التمييز عن أصله ولكن دون أي فرق واضح في الأفكار و المبادئ والرؤى والأهداف وهذا يعكس حالة العجز في إنتاج الأفكار وطرح الحلول الممكنة للمشكلات والأزمات والخلافات، مما يؤكد أن سبب الخلافات في الأحزاب والتنظيمات السياسية في السودان ليست حول البرامج والمبادئ والقيم والأهداف وإنما لأسباب خاصة تتعلق بالنزعات والأطماع الشخصية،
ولعمري فإن المال والسلطة أصل الداء وكل العلل التي أصابت القوى السياسية كافة، فمهما بلغ بنا التفاؤل مبلغاً بأن في الإمكان إحداث تغيير و إصلاحات في الممارسة الديمقراطية وإشاعة الحرية لتطوير الأحزاب والتنظيمات السياسية من الداخل إلا أنه من الصعب أن يكون هناك أي ضامن يمنع تكرار مسرحية التشظي والتشرذم الذان أصبحا يلازمان أي مرحلة فيها التشاكس كل ما قرب موعد إعلان الحكومات أو تعيينات المناصب العليا ذات الصبغة السياسية حتى باتت تمثل متلازمة الكنكشة والتشبث بكراسي السلطة، إذاً لابد من الوقوف عند هذه الظاهرة ودراستها التي أثبتت بالتجربة أن تجلياتها وما وراء تلكم التجليات من أسباب و دواعي حقيقية تستدعي النظر بإمعان كما أشرنا آنفاً بضرورة حل الأحزاب و التنظيمات السياسية وإعادة تكوينها و تشكيلها و تأسيسها على أسس ومعايير جديدة حتى يتم تخليص البلاد من تلك الأحزاب الصفوية والأيدلوجيا والتقليدية المتحجرة التي عجزت وشاخت من شدة التكلس والتصدع الفكري.
والسودان في هذه المرحلة الحرجة يحتاج إلى مراجعات عميقة و تغييرات جذرية وتحولات كبيرة في كل الأَصعِدة والمجالات لضمان تماسك بنائه على صعيد الجبهة الداخلية بتقوية الوحدة الوطنية وتنمية الشعور الوجداني بالانتماء والمصير المشترك، لأنهما قطبي السلام والأمن والاستقرار والتقدم والازدهار لأي دولة،لذلك لا مناص ولا مفر من حل الأحزاب و إعادة تكوينها وتأسيسها على أسس وقواعد جديدة باعتباره ضرورة وطنية ملحة في هذه المرحلة.

( حرية-سلام وعدالة والوحدة خيار الشعب)

اترك رد