الدكتور جلال يوسف الدقير يرثي الكابلي ويكتب: ( عبقري من عهد الرشيد)
متابعات/ الرائد نت
قال أبو الفرج الأصفهاني (صاحب الاغانى) عن اسحق إبراهيم الموصلي: (إن الغناء أصغر علوم اسحق، وأدنى ما يوسم به)، وقال عنه الخليفة المأمون نجل الرشيد: (لولا اشتهار اسحق بالغناء لوليته القضاء لما أعلم من غزير علمه وعفته و نزاهته، و لكنه اشتهر بالغناء وغلب على جميع علومه ولم يكن له فيها نظير)، إذ كان عالماً باللغة والتاريخ وعلم الكلام، ناظماً للشعر وراوياً له، وقال الخليفة الواثق: (ما غناني أو تحدث فى مجلسي اسحق إلا ظننت أن زيد لي فى ملكي).
ترى عمن كان يتحدث صاحب الأغاني والمأمون و الواثق؟ عن اسحق أم عن عبد الكريم الكابلي، إذ ما رأيت فناناً عربياً معاصراً اجتمعت له شوارد الكلم، وسعة الثقافة، وبدائع الألحان، ونوادر مقامات الموسيقى، وفخامة الحضور، بمثلما اجتمعت للكابلي،
قدم له الرئيس بوتفليقة الوسام الذهبي امتناناً من الجزائر وشعبها وثورتها لعبد الكريم، ووقفت جميلة بوحيرد ومآقيها تفيض بالدمع، و لم يُر الزعيم الخالد عبد الناصر واقفاً منتشياً وهو يصفق في حرارة إلا مرتين، مرة عندما غنت سيدة الغناء العربي في حضوره قصيدة صلاح جاهين التي لحنها رياض السنباطي عام 1959 عن السد العالي (كان حلماً فخاطراً)، ومرة ثانية في المسرح القومي بأم درمان عام 1960، عندما غنى عبد الكريم من ألحانه أنشودة آسيا وإفريقيا لتاج السر الحسن، (مصر يا أخت بلادي يا شقيقة.. يا رياضاً عذبة الورد وريقة.. يا حقيقة.. ملء روحي أنت يا أخت بلادي.. سوف نجتث من من الوادي الأعادي).
لقد تغنت أم كلثوم قبله بسنوات بقصيدة أبي فراس (أراك عصىّ الدمع) بثلاثة ألحان.. لحن وضعه الفنان القامة السنباطي وآخرين وضعهما عبده الحامولي وزكريا أحمد، و في كلها أبدعت وأشجت.. عندما وقف أمامها في المسرح القومي عام 1967، لقد زارت الخرطوم فى إطار جولتها لدعم المجهود الحربي عقب النكسة، كان عبد الكريم يعلم أنه يطاول قمماً أربع في الأداء والتلحين عندما غنى من تلحينه: (أراك عصىّ الدمع شيمتك الصبر).. ومع صعوبة التطريب في السلم الخماسي مقارنة مع التنسيق السباعي، إلا أن عبد الكريم ليلتها أجاد وأطرب وتفوق، فشدت أم كلثوم على يده بحرارة بعد أن صفقت طويلاً.. وكان له جمهور معجب ومحب في بلاد الشام، مهد الحضارات وسط النخب والعامة، وقال عنه الفنان السامق وديع الصافي أن عبد الكريم الكابلي صخرة من صخور الغناء العربي.
يكمن دائما بين البلاء والمصيبة إحساسنا المضني بطعم الرحيل المر ووقعه اللاسع، حزناً عميقاً نحسه وحسرة نعانيها كلما عبر على جسر الرحيل الأبدي المضروب على رقابنا العابرون من الأهل ورفقاء الدرب والأحباب.. ولذلك أتاني مؤلماً فاجعاً خبر صديق سامق القامة وفخيم المعنى صبيح الوجه وبسام المحيا، عبد الكريم كان إنساناً سمحاً جميلاً ذا عريكة لينة وطبع رقيق، كان عبد الكريم أديباً متعمقاً فى شتى مناحي المعرفة الإنسانية والفنون والآداب، وكان شاعراً يزين قلائد القصيد بحسان من جواهر الكلم، فيأتي شعره غرداً من غير لحن، وكان قارئا نهماً باللغتين العربية والإنجليزية، مهتماً بكل أنواع العلوم والفنون والآداب، ويشهد كل من جالسه على موسوعية معرفته.. وكان مغنياً متميزاً فى أدائه الذب ارتكز على معرفة بأصول الموسيقى و دقائقها، بارعاً في اختيار الإيقاعات التي يطوعها لتناسب كل بحور الشعر الفصيح وألوان الشعر العامي، فيأتي أداؤه مناغماً بين جميل الكلام وبديع الألحان، يصوغ السحر والروح والخلود.. أجزم أنه ليس من مطرب عربي أو إفريقي، تغنى لهذا الكم المتنوع من الشعراء امتد زمانهم أكثر من ألف عام، لقد جارى مغنين من عهد هرون الرشيد مثل الموصلي وإبراهيم بن المهدي فى ضبط الأوزان التي تبنى عليها مقامات الموسيقى، وميز بينها تمييزاً دقيقاً تلمسه فى أدائه، غنى لكل الألوان، ولكنه كان يعشق الشعر العمودي، غنى لأبي الطيب المتنبي (أرى ذلك القرب صار ازورارا.. وصار طويل الكلام اختصارا) غنى ليزيد بن معاوية أمطرت لؤلؤاً (نالت على يدها)، تغنى للأخطل الصغير وأبى نواس وأبى فراس الحمداني، وفي الأزمان المعاصرة تغنى لأحمد شوقي وابراهيم ناجي وأبدع وأجاد فى لحن الجندول، الذي رقصت على انغامه كليوباترا.. خلد حرائر الجزائر اللائي كن وقوداً لثورة المليون شهيد بلحنه الخالد لقصيدة الشاعر البحريني على شريحة (لؤلؤة البحرين)، قصة البطلة فضة الأمازيغية، وهي تقاتل الاستعمار في أحراش الجزائر ورصد الفرنسيون إمكانات ضخمة لاغتيالها فهربها الثوار إلى البحرين، حيث تمت تصفيتها هناك، وكانت رائعة الكابلي أغلى من لؤلؤةٍ بضة صيدت في شط البحرين.. تغنى عبد الكريم لطيفٍ واسعٍ من شعراء الفصحى والعامية في السودان على رأسهم الفيتوري وإدريس جماع و عمر الدوش الذي غنى له سعاد (شان البت سعاد أصلي عارف جنها فى زول بيركز وينستر).. غنى للعباسي و لإخوان الصفا صديق مدثر والحسين الحسن والسفير عبد المجيد الأمين (هبت الخرطوم في جنح الدجى)، وآخرين كثر من عمالقة الشعر الغنائي، ومن أبرز ما تميز به بحثه فى التراث السوداني وتقنينه، ساعده فى ذلك المام واسع بالسودان وقبائله وتنوعه، ولكم تحدث عن القيمة الوطنية والفنية لهذا التنوع، كما وثّق فى كثير من المحاضرات والأبحاث المنشورة لذلك التنوع، بل وجعل التراث السوداني جزءاً من المزاج العام للغناء السوداني، وطاف حراً بجناحين مرفرفين بين رياض الموروث الشعبي المعطر بالكبرياء والشموخ وعزّة النفس وعفّة البيان.
تشاء تصاريف القدر أن اكتب هذه الخواطر وأنا في مدينة دبي، المكان نفسه الذي تعرفت فيه عليه أول مرة وأنا طبيب امتياز في منتصف العشرية السابعة، وامتدت علاقتي به عقوداً طويلة، تجمرت بالمودة والمعزة وطيب الصلات، فيها كثير من المحطات ما يستحق التوثيق. لكني أقف عند اثنتين.
ذهبت فى ربيع العام 1980 للملكة العربيه السعودية في مهمة سياسية، أحمل رسائل لقيادات في المملكة من شهيد المنافي؛ الشريف حسين الهندي تخص الحزب، ومن ضمنها طلب السماح بدخول مجلة الدستور للمملكة، وقتها كان عبد الكريم قد ضاقت به سعة الوطن الذي أحبه فغادر مغترباً في مدينة الرياض، يعمل بإحدى المؤسسات، ولكن لم يغادر حب الوطن قلبه. ذهبت لزيارته وما انتهينا من حديثنا إلا وجهت له عفو الخاطر دعوةً لزيارة المملكة المتحدة، ولحساسية الموقف، قلت له إن الدعوة في ظاهرها من رابطة الطلاب السودانيين، وكنت أرأسها وقتذاك، ولكن باطنها دعوة من الشريف الحسين، وكانت بينهما مودة وإلفة.. لم يتردد في قبول الدعوة، ولباها بعد أشهرٍ قليلة.
عند وصوله كان الشريف خارج بريطانيا في سعيه الدؤوب لتعزيز قدرات المعارضة من أجل اسقاط النظام.. النظام المايوي؛ وإحلاله بالبديل الوطني الديمقراطي، ولكنه وجهني باستضافة الرجل بما يليق به.. فاحتفينا به بما يستحق، أقمت الحفل الرئيسي بقاعة الكافييه رويال بمنطقة البيكاديللي الشهيرة، وهو مكان تقام فيه أرقى الحفلات، وتقدم فيه الملكة الجوائز للمتميزين من أهل الفنون والآداب، ومن أشهر من تعاقب على رئاسته الفخرية الأميرة ديانا.
احتشد ليلتها السودانيون وأسرهم كما لم يحتشدوا من قبل، وأبدع الكابلي ليلتها وأجاد.. غنى فيها للوطن وللجمال وللتراث وللحب.. بدأها برائعة الخليل (نحن الشرف الباذخ)، واستمر ينثر الدرر من الغناء الفصيح والعامي، ثم رتبنا له زيارات للمدن الأخرى التي بها كثافة من السودانيين، فأشاع فيهم البهجة والنضار، وأزاح عنهم كثيراً من هجير الغربة ورمضائها.
لم يلتق بالشريف إلا فى الليلة الأخيرة لوجوده في بريطانيا بدارى بضاحية ايلنج.. كان لقاءً فهيماً فخيماً ومهيباً، فكلا الرجلين ذو إيمانٍ، مثقف عميق بالخالق العظيم، وكلاهما صوفي متبتل، فعبد الكريم قادري، والشريف هو من هو.. وعندما يتصل الأمر بالسودان وقبائله وتاريخ الحضارات فيه وما صحبه من تراث أغلب توثيقه مشافهة غير مكتوبة فان كلاهما مستودع ذاخر لكثيرٍ من النفائس والمواهب والدرر، ومع استطالة اللقاء الذى امتد لثلاث ساعات لم يتسع في نهايته إلا لأغنيةٍ واحدةٍ طلبها الشريف (بت ملوك النيل) وختمها الكابلي بطبل العز ضرب يا السُرّة قومي خلاص، فى نهايتها سألني الشريف من شاعر هذه الأغنية؟ فقلت له لا أعرف.. قال لي بسخرية (أحسن تعرف تراث أهلك العبدلاب.. هذه القصيدة قالتها حبوبةً ليك هي السرة بت الشيخ ناصر الأرباب، التي اقسمت بالله أن لا تقوم من سجادتها حتى تسمع بموت من ظلم أهلها وكان لها ذلك، (طبل العز ضرب يا السُرّة قومى خلاص.. طبل العز ضرب والخيل تسابق الخيل.. والظالم وقع كية الفراس.. والظالم وقع يا السرة داوي جراح).. ثم نفث الدخان من سيجارة في فمه وأردف قائلاً: هي القالت في أبوها الأرباب ناصر (قمر العشا الضواي للخصيم كواي.. بجر مسداري وبنم في الأرباب سيد الاسم) لم أأسف على شيء مثل أسفي على عدم تسجيل تلك الأمسية.
أما المحطة الأخرى التي أريد أن أذكر لقاءه بعد أكثر من ثلاثين عاماً بالشريف الآخر، زين العابدين الهندي، صوفي آخر قضى العمر فى محراب الوطن، باحثاً فى صدور أهله عن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية الراشدة.
كتب عن ذلك نثراً مموسقاً مزركشاً بالبهاء، وكتب كثيراً من الشعر الغرد النضير، ولعل من أجمل ما كتب أنشودة الهجرة و الاغتراب، مشاعر قوم وموال أمة، أغنية حب وتصد وعرفان.. تغنى فيها للسودان شبرا شبراً.. تغنى للنيلين الأزرق والأبيض.. غنى لرهد المفازة ولمريدي وللسوباط.. غنى لبحر العرب وبطانة أبوسن و جبل مرة.. غنى فيها لأدروب و هبباي بركة، غنى لعلي دينار أدَّاب العُصاة زول زول، ولحريق المك في قلب الدخيل.. غنى للقصر الجمهوري الضبح غوردون من الإضنين، وغنى للأزهري النكّس ذُرى العلمين.
بعد جهد اقتنع الشريف أن نأخذ الانشودة للكابلي ليحولها للوحةٍ إبداعيةٍ توثق هذا العمل الذي ظل مطموراً ثلاثة عقود من الزمان.. صدح الكابلي بالكلمات وايقاعها البديع ومعانيها العميقة.. وقع في حبه منذ الوهلة الأولى.. سكب عبد الكريم فى ذلك الأوبريت عصارة إحساسه وذوقه الفني واختار له من الإيقاعات ما طوّف به جميع أنحاء السودان، استغرقه ذلك قرابة العامين، ولم يكمله حتى اختار الله إلى جواره الشريف. اتفقنا أن يخرج إلى الناس فى الذكرى الأولى لوفاته.. وكان يوماً رهيباً مهيباً.. تفوق فيه عبد الكريم على نفسه، وخرج الأوبريت إضافةً نوعيه مميزة ومثقفة للمكتبة الفنية السودانية.
رحم الله الفنان الأديب المؤدب المرهف الشفيف عبدالكريم.. رحيله؛ كما أسلفت رحيل حقبة مترعة بالجمال وقيمه، كان محباً عاشقاً لوطنه، عندما أحس بدنو أجله حمل نفسه على المجيء للسودان، يحمل أثقال السنين وأحمال الداء، و كأني به يودع الارض والأحباب الذين أحبهم وبادلوه حبهم و عشقهم، أتى والبلاد اجتاحتها ثورة هزت وجدان العالم فجرها شباب يبتغون ذُرى المجد، ويحلمون بغدٍ أفضل، وفجر أبلج. وبحس الفنان المرهف والوطنى الغيور أوصى الناس بكلماته.. (ليست الثورة تهليلاً وتطبيلاً لفرد.. ليست الثورة تدعيماً وتكريساً لقيد.. إنما الثورة جهد بعد جهد بعد جهد.. إنما الثورة أيدٍ فوق أيدٍ فوق أيدٍ.. لقلاع الجهل للفقر للداء الألد.. لشرور النفس والحقد وجور المستبد)، حزنى عليه شخصي وعام ففقده فقد أمة، رحمه الله وأكرم نزله وشمله بعفوه ورضاه ووسع له في مقاعد المقربين، وأنزله مقعد صدقٍ بين جناتٍ ونهر.