متحف النصر في موسكو : تخليدٌ لذكرى أعجوبة العالم الثامنة.. محمد الفاتح إسماعيل

متابعات/الرائد نت

يقول الفيلسوف الصيني كونفيشوس : ” إذا أردت أن تعرف مدى تقدم أمة وحضارتها ومدى وعيها، فاستمع إلى موسيقاها” كما أن هناك الكثير من المقولات التي تدل على ارتباط الفن بحركة التاريخ وعلاقته الطردية بمدى تقدم الأمم والحضارات، ولعل أجود أنواع الفن هو ذلك الذي يرتبط بالقدرة على تجسيد الحقائق التاريخية في عمل أدبي سهل، عميق ومؤثر.
متحف النصر في موسكو والذي أتحيت لي الفرصة لزيارته من خلال برنامج الجيل الجديد من تنظيم قناة روسيا اليوم العربية بالتعاون مع الوكالة الروسية للتعاون الدولي الإنساني، هو أحد تلك الأعمال الفنية المدهشة التي تجسد واحدة من أهم الحقب التي ساهمت في تشكيل العالم أجمع وليس روسيا فحسب، حيث يلخص المتحف انتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية على المانيا النازية ويقف شاهداً على بسالة وشجاعة الروس الذين فقدوا أكثر من 8 مليون نسمة في هذه الحرب من بينهم مليونا عسكري في سبيل الدفاع عن أرضهم.
متحف النصر أو متحف الحرب الوطنية العظمي تم تصميمه من قبل المهندس المعماري (أناتولي بوليانسكي) وهو مهندس ورسام روسي خريج معهد موسكو المعماري، حيث بدأ العمل في المتحف في مارس 1986 واستغرق العمل فيه حوالي 9 أعوام ليتم افتتاحه في 9 مايو من العام 1995 في ذكرى عيد النصر حيث يحتفل الشعب الروسي في هذا اليوم من كل عام بالانتصار على المانيا في الحرب العالمية الثانية وهو اليوم الذي يصادف توقيع المانيا النازية استسلام غير مشروط في الوقت الذي كان فيه الجيش الأحمر على مشارف برلين في العام 1945م.
النصب التذكاري في الساحة :
في ساحة المتحف هناك أعلى نصب تذكاري في جميع أنحاء روسيا حيث يبلغ ارتفاعه 140 متر في دلالة لأيام الحرب الوطنية العظمي والتي تبلغ 1419 يوم.
مزيج من الحداثة والأصالة :
بصورة مجملة فإن طريقة تكوين المتحف تجمع ما بين الأصالة المتمثلة في القطع والمقتنيات التاريخية التي جمعت من المواقع المختلفة التي دارت فيها المعارك مثل الملابس، المعدات، الأثاث وغيرها من الأشياء وكذلك بين الحداثة والتي تتجلى في الأجهزة والتقنيات الحديثة التي تستكمل الصورة لتضع الزائر في مشهد مذهل وكأنه جزء من تلك اللحظات التاريخية.
أكبر قاعدة بيانات لأبطال النصر :
لعل أول ما يلفت الانتباه في متحف النصر هو قاعدة بيانات ضخمة تضم جميع المتطوعين في الجيش الأحمر خلال الحرب حيث توضع شاشات عملاقة على جانبي ممر طويل، ما عليك سوى كتابة الاسم الذي تبحث عنه في إحدى لوحات المفاتيح الموجودة بالقرب من الشاشة حتى تظهر لك جميع البيانات حول الشخص مثل الصورة والاسم الكامل ونبذة عن الاسم، عبر قاعدة البيانات هذه والتي تضم معلومات أكثر من 7 مليون مواطن روسي يرسخ المتحف ذكرى هؤلاء الشجعان الذين قضوا في الحرب.
التصنيع الحربي الروسي:
في جنبات المتحف نماذج للعبقرية السوفيتية في التصنيع الحربي ونماذج لمختلف الأسلحة التي قام بصنعها الروس بتقنيات وأيدي روسية، بنادق ومدافع ودبابات وحتى طائرات جميع هذه المنجزات الهندسية موجودة بالمتحف، كما توجد معلومات حول أبرز المهندسين والعلماء الذين أسهموا في تطوير وتحديث المنظومة العسكرية الروسية.
الحرب لم توقف الحياة الأدبية والثقافية:
يجسد المتحف قوة شكيمة الشعب الروسي وكيف أن الحياة الفكرية والثقافية والأدبية لم تتوقف بسبب الحرب، حيث واصلت المكتبات والمدارس والمسارح عملها تحت نيران القصف النازي، بل يمكن القول إن استمرار استعار الحرب قد ساعد في إزدهار الأدب الروسي حيث أسهم المفكرون والأدباء في شحذ همم الجنود وتعبئتهم اتجاه الدفاع عن أرضهم في هذه الحرب الوجودية.
تكاتف وتعاضد منقطع النظير للشعب خلف الجيش:
يحتوي المتحف على كثير من المشاهد المؤثرة لتكاتف مكونات الشعب المختلفة في الحرب العالمية الثانية كل حسب استطاعته،فمثلاً شارك النساء الروسيات بفعالية في هذه الحرب وفي مختلف الجبهات وقد قمن بأدوار عدة بدءاً من تقديم وإعداد الطعام وتطبيب الجرحى وصولاً الى حمل السلاح والمشاركة جنباً الى جنب مع الرجال في جبهات القتال المستعرة إذ يصور المتحف هذه المشاهد برسومات ومنحوتات معبرة تظهر انصهار جميع مكونات الشعب الروسي في بوتقة واحدة.
مستشفيات ميدانية :
في إحدى ردهات المتحف هناك قسم مخصص لتخليد ذكرى الأطباء الذين شاركوا في مختلف جبهات القتال إبان الحرب حيث يضم هذا القسم قاعدة بيانات لهؤلاء الأطباء الشجعان الذين ساهموا في إنقاذ حياة مئات الآلاف من الجنود والمواطنين خلال فترة الحرب، كما يضم القسم قطع ومعدات من التي كانت تستخدم في ذلك الوقت، حيث نجحت الأطقم الطبية في ذلك الوقت من تنفيذ مجهود كبير بمعدات وإمكانيات محدودة للغاية.
ستالينغراد : أيقونة الصمود الأسطوري في العالم والأعجوبة الثامنة:
هناك العديد من التحف المعمارية الحديثة حول العالم والتي تسمى بالأعجوبة الثامنة لكن أشهرها على الإطلاق هي غرفة الكهرمان في روسيا.
صممت غرفة الكهرمان المرصعة بالجواهر والتي تعرف بالأعجوبة الثامنة في مطلع القرن الثامن عشر في قصر الملك فريدريك الأول وفي العام 1716 أهديت الغرفة للقيصر الروسي بطرس الأكبر حيث نقلت إلى قصر كاثرين وظلت هناك حتى اختفت إبان الحرب العالمية الثانية وأعيد مؤخراً بناؤها في قصر سانت بطرسبورغ.
في متحف النصر هناك تجسيد للصمود الذي أقل ما يكن أن نقول عنه أنه أسطوري للجيش الأحمر في مدينة (ستالينغراد) حيث صمد السوفيت لمدة ستة أشهر أمام أشرس هجمات الجيش النازي قبل أن يتقدموا ويطبقوا الحصار على الألمان ومن ثم يهزموهم مسجلين ما يسمي بلغة كرة القدم (ريمونتادا) تاريخية ساهمت فيما بعد بكسر ظهر النازية وأدت إلى استسلامهم في مايو من العام 1945م.
إن زيارة متحف النصر كفيلة بأن تغنيك عن الإطلاع على مئات الكتب وعشرات الأفلام التي حاولت أن تؤرخ لقصة صمود الجيش الأحمر في هذه المدينة حيث تحس أثناء تجولك في هذا المتحف بأحاسيس متداخلة لا توصف وأنت ترى التصوير الفني لهذه المعركة.
في الختام يمكن أن نقول بأنه وإن كانت إحدى خسائر الحرب العالمية الثانية هي طمس إحدى أهم المعالم الأثرية في العالم والتي كانت بمثابة الأعجوبة الثامنة في العالم وهي غرفة الكهرمان، إلا أنها قد أضافت للعالم أعجوبة ثامنة أهم ألا وهي الصمود الأسطوري في ستالينغراد والذي ساهم في تشكيل العالم الحديث اليوم، عالم اليوم المتغير والذي تبدلت فيه قواعد اللعبة فأصبح فيه أصدقاء الأمس هم أعداء اليوم حيث يساند الغرب اليوم ذات النازية التي حاربها في القرن التاسع عشر، ولكن المؤكد هنا أن النظام العالمي الحالي والذي تشكل ما بعد الحرب العالمية الثانية ومؤسساته المختطفة من قبل الغرب لن يصمد أكثر بعد اليوم خصوصاً بعد سقوط الشعارات الرنانة والزائفة وما يسمى بالشرعية الدولية أمام اختبارات أخلاقية كبرى كان آخرها حرب غزة، الأمر الذي يتطلب من الشعوب العربية والإسلامية الاستيقاظ والدفاع عن حلمها في الحياة ولعل أهم نموذج يمكن أن نستلهم منه معنى القتال بشرف من أجل الحياة هو هذا النموذج الروسي المدهش في الحرب العالمية الثانية.
من خلال هذه الزيارة والتي امتدت لسبعة أيام تعرفنا عن قرب على العاصمة الروسية موسكو وعن أبز معالمها التاريخية والثقافية ابتداءاً من متحف النصر ومروراً بالساحة الحمراء وانتهاءً بالمركز التجاري الحديث في العاصمة بالإضافة لمجمع المعارض الروسي والذي يضم في داخله أقسام لجميع الأقاليم الروسية، والذي من خلاله يمكنك أن تتعرف على جميع روسيا، وسأتناول في سلسة مقالات مفصلة جميع هذه المعالم خلال الفترة القادمة.

28 يونيو 2024 موسكو

التعليقات مغلقة.