تفاصيل مثيرة في برنامج أيام في حياة مواطنين.. سكان الخرطوم بين الرحيل والبقاء
الخرطوم/الرائد نت
الحرب التي اندلعت في الخرطوم في الخامس عشر من أبريل من العام ٢٠٢٣، بين الجيش ومليشيا الدعم السريع المتمردة، والتي تركت آثارها على جميع سكان الخرطوم بكل فئاتهم المختلفة شيبا وشبابا وأطفالا نساءا ورجالا ، لم تكن ككل الحروب حيث امتد تأثيرها على المواطن فقد كان مستهدفا في تواجده بمسكنه وموطنه.
وقد بدأ الاستهداف بدخول المليشيا لمستشفى الدايات بأم درمان وكان ذلك أمرا مستنكرا ومخالفا لكل الأعراف وسرعان ما امتد الأمر لاقتحام بيوت المواطنين وتدوين المناطق التي يصر سكانها على البقاء بها حتى يتم إخلائها برحيل قسري بحثا عن الأمان. وتتابعت الرحلات التي عاشها المواطنون تباعا يوما بعد يوم حتى شهدت هذه الفترة أكثر رحلات نزوح ولجوء غير مسبوقة، وستظل يذكرها التاريخ.
ففرضت على المواطن الأعزل الذي يواجه بقوة السلاح ، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة الى أن عدد النازحين داخليا اكثر من ١٠ ملايين مواطنا وان ربع سكان السودان البالغ عددهم ٤٧ مليونا مابين نازح ولاجيء وزاد الأمر تعقيدا دخول المليشيا لولاية الجزيرة التي كانت في ذلك الوقت مأوىً وملاذاً لمعظم سكان الخرطوم الذين نزحوا من ديارهم بالخرطوم لها بحكم قربها .
وتنشر وكالةالسودان للانباء( سونا) ، في حلقات سردا لمعاناة المواطنين بين البقاء والرحيل من الخرطوم يتحدث فيها عدد من المواطنين عن تأثير الحرب عليهم بالخرطوم ومعاناتهم فيها وعند رحيلهم منها.
الحلقة الثانية : في هذه الحلقة (٢) تتحدث المواطنة ( سمية عبد النبي محمد ) فإلى مضابط حديثها : لم تكن فكرة الخروج من المنزل تراودني حيث يدرس أبنائي بالمدارس والجامعات وعندما اندلعت الحرب في الخرطوم في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ م واشتد العنف واستمر دوي المدافع والدانات و الرصاص التي تقع كل يوم صباحا ومساءا حيث اقطن بجنوب الخرطوم ، ومنطقتنا من أكثر المناطق التي شهدت انفجارات ودوي أصوات الرصاص لقربها من المدينة الرياضية وأرض المعسكرات وشارع الهواء ، مما عجل بخروجنا.
شهدنا قبل خروجنا وقوع دانات متكررة بمسجد جوار منزلنا وفي الميادين وكنا نشاهد أعمدة النيران متصاعدة من تلك المناطق ومما زاد من خوفنا الهجوم على مجمع اليرموك الصناعي العسكري الذي يقع بمنطقة المدرعات جنوب الخرطوم الذي اشتعلت فيه النيران لأكثر من اسبوع.
مكثنا بدارنا لمدة شهرين منذ اندلاع الحرب حتى خروجنا واصبح الحصول على الماء والغذاء والدواء صعب وأغلقت جميع المحلات التجارية والأسواق عدا سوق واحد بمنطقة لا تبعد عنا كثيرا وكان هذا السوق يقع تحت سيطرة الدعم السريع . مع استمرار العمليات الحربية وقلة الموارد المالية وتوقف الحياة والأسواق وحركة البيع والشراء وكثرت أعمال النهب والسلب مع إنقطاع الخدمات الضرورية من كهرباء وانترنت وانقطع بدوره أي تواصل مع الأقارب والإمداد والمساعدات.
قررنا الخروج من الخرطوم فخرجنا من الخرطوم صوب ولاية النيل الأبيض برفقة امي واخوتي وأبنائهم . وفي الصباح الباكر توجهنا نحو المواصلات ووجدنا حافلة ٢٥ راكب بقيمة ١٥ الف جنيها للتذكرة الواحدة دفعنا قيمة ١١ تذكرة وتحركنا نحو الثامنة صباحا مع خضوع الحافلة لعمليات تفتيش من قبل قوات الدعم السريع وتفتيش الشباب وانزالهم وتفتيشهم تفتيشا دقيقا والتأكد من الأوراق الثبوتية وكل ما يحملون في حقائبهم وطيلة الطريق هناك ارتكازات عديدة يتم فيها الفحص عن حمولات الحافلة من حقائب وعفش واستمرت الرحلة والتفتيش حتى خروجنا من منطقة جبل أولياء.
ولم نتنفس الصعداء الا بالدخول إلى منطقة القطينة بولاية النيل الأبيض والقرى القريبة منها حيث صلينا العصر والظهر جمعا بها وواصلنا الرحلة بين المحطات وارتكازات التفتيش إلى ان دخلنا مدينة ربك في الساعة الثامنة مساءا، ومنها إلى السوق الشعبي بكوستي حيث مكثنا عند اقاربنا ولم نجد منزلا كبيرا للسكن لارتفاع سعر الإيجارات وما كان أمامنا إلا أن توزعنا بين الاهل ومكث اخي وزوجته في منزل صغير يتكون من غرفة واحدة وبرندة (صالة صغيرة) ومطبخ وسكنت انا واولادي حيث كنا ٩ افراد على الرغم من ضيق المكان وعدم وجود حنفية مياه كنا نجلب المياه من الجيران ،وكثيرا ما نشتري من اصحاب الكارو (مياه البحر) او مياه صحة من البقالة لكنها غالية وكنا نطهو الطعام بالحطب ونأكل كسرة الفتريتة (نوع من انواع الذرة الاحمر) بالطماطم بالدكوة( الفول السوداني) .
وحل فصل الخريف فعانينا الأمرين الباعوض والحشرات وكنا ننوم بلا ناموسيات ولا اغطية ، حيث يرتفع ثمنها مع حلول الخريف وبرودة الجو ، وعانى أولادي من حمى الملاريا التي اصيبوا بها كذا مرة في فترة الخريف ونحن بهذه الولاية وكانت تلك أول مرة تصيبهم ربما لكثرة الأمطار هناك . وكثيرا ما عانينا الحصول على الدعم والمساعدة من قبل الولاية باعتبارنا اسرة وافدة لأننا لم نسكن في دور الإيواء التي يقدم لهم فيها الدعم والغذاء.
كما عانينا من قلة المال وارتفاع اسعار المواد الغذائية والدواء كل يوم جديد كانت هناك زيادة في الأسعار ولكن تمسكنا بالحياة وكلنا أمل في إنهاء الحرب والرجوع للديار.
مكثنا في كوستي بأحد الأحياء موزعين في السكن مع خالتي وأقارب لنا . ولم تنسى أمي بيتها في الخرطوم وكيف خرجت منه دون ارادتها وكثيرا ما تقول عندما تسمع أن مليشيات الدعم السريع احتلت البيوت (تأني ما برجع بيتي ولا بشوفوا) ، كما زاد من قلقلها أن تعرض بيتي للسرقة وحينها قالت “لي اقنعوا من بيوتكم وكان رجعتوا أنا ما برجع معاكم ولا بشوف الخرطوم مرة أخرى كأنها ترا الموت بعينها تحدثه ويحدثها”.
لم يمر على اقامتنا في ولاية النيل الأبيض 4 شهور مع معاناة بحث أبنائي عن عمل حتى يسدوا به رمق العيش ،إلا وبدأت أعراض المرض تظهر على أمي وأصيبت بضيق في النفس وألم في الصدر وذهب ابن خالتي وأختي الصغرى إلى المستشفى العسكري وشخصت حالتها ضيق في الصمام ، ولم تتحسن قليلا إلا واصابها ضيق في التنفس واخذناها إلى مستشفى كوستي قسم الطواريء والإصابات لحوجتها إلى أوكسجين كم وجدنا صعوبة في الحصول على أسطوانة اوكسجين لولا مساعدة خالي الذي يعمل بالمستشفى لما تمكنا من إسعافها ، وكان لوقوف ابناء خالاتي وأخوالي وجميع اهلي إثرا طيبا في المساعدة في نفقات علاج الوالدة ولكن أقدار الله حكمت أن تتوفى أمي في شهر ديسمبر ٢٠٢٣ بمسقط رأسها وتدفن بجوار شقيقتها الصغرى.
وبوفاتها فقدنا الأم الرؤوم وحضنها ومواساتها لنا وحكمتها مضت بعد صبرها على معاناة الحياة وحكاياتها وقصصها وأصبحنا بلا دار وبلا وطن، نرزح في الحزن والألم وشظف العيش والنزوح ، وعانى أبنائي من العطالة ولم يجدوا مهنة حسب تخصصهم أو دراساتهم حتى التدريب توقف بتلك الولاية.
عمل إبني الأصغر في السوق فريشة يعاون اقاربنا في عملهم مقابل ٢ ألف جنيها لم تكن تسد الرمق ولكنها تساعد في جلب الخبز والصابون والتي لم تكن احلامنا تتجاوزها كثيرا.
علمتنا الحرب كيف نتقاسم اللقمة و كيف نكون سند لي بعضنا البعض هي تجربة بل حالة لأول مرة نشهدها ، تقبلناها بايمان قوي بقدرة الله بأن القادم أفضل وإن الخير فيما اختاره الله… على الرغم من الفقد والألم والحزن وارتفاع التكاليف المعيشية يسعى أبنائي لتعلم كل ما هو جديد من حرف ومهن والدخول في كورسات وتحسين اللغة والتعليم أونلاين حتى لا يفقدوا تحصيل دروسهم التعليمية والجامعية.
لابد لنا ان نتعلم من تجاربنا ونقوي من ثقتنا بأنفسنا ونبني قدراتنا ونؤهلها . كنت أتمنى أن تفتح كل ولاية ازرعها للشباب في عمر الإنتاج وتخصص لهم مراكز او دور أو النوادي الرياضية أو الميادين للتدريب في المجالات المختلفة والمهن التقنية فكل واحد لديه موهبة وحرفة يتقنها وتقويتها وممارستها يساعد في تقليل البطالة وإكساب خبرات أوسع وزيادة حجم الإنتاجية باستخدام المواد المتوفرة بكل ولاية حتى نخرج بعد نهاية الحرب بجيل واعي بالتنمية والعمران يساعد بفكره وسواعده في بناء ما دمرته الحرب وفي الختام اتمنى أن يحصل الجميع على حياة آمنة وتعليم جيد عبر التعليم الإلكتروني والرعاية الصحية والحصول على الغذاء والدواء.
ونأمل في الوصول إلى نهاية التمرد وتحقيق سلام دائم ينعم به المواطن الذي أنهكته الحرب وأفقرته وفقد الغالي والنفيس وحتى يتمكن من العودة إلى حضن الوطن والديار باذن الله.
التعليقات مغلقة.