ظهور علم الأناركية في مظاهرات السودان يثير جدلا واسعاً على منصات التواصل

0

متابعات/ الرائد نت

نفذت خلال الثورة السودانية، خصوصاً في عامها الثالث، بعض الشعارات التي كانت من قبل مثار اعتراض المجتمع السوداني، منها ما ينتمي إلى اليسار مثل شعارات “الأناركية”، التي ربما لم تتعمّق في فهمها غالبية المتظاهرين، لكنها سرت بينهم بسبب الضخ الكثيف لأفكارها من بعض قادة الحزب الشيوعي السوداني. بدأ اعتناقها من دون قصد بالاعتراض على التسلسل الهرمي للسلطة وتنظيمها وصولاً إلى بعض الحالات الفوضوية.

استغل المروجون لهذه الحركة التعديلات المطروحة على التشريعات والقوانين، ومنها ما تمت المصادقة عليها، ومنها ما يناضل الحقوقيون في سبيل تنفيذها، ليساووا بينها وبين بقية الحريات المتفق على ضرورة نيلها.

ومن بينها ظهرت الشعارات الخاصة بالمثلية الجنسية، إذ قاد بعض أفراد مجتمع الميم من سودانيين مقيمين في الخارج التظاهرات هناك، مرتدين الزي السوداني التقليدي وبعض الإكسسوارات التراثية لإظهار هويتهم.

وأهم مظاهر الحراك السياسي الجديد هو اعتماد الثوار في الخرطوم وبعض المدن السودانية على هياكل أخرى قريبة تمثلها سلطة أفقية تطوعية، مثل لجان المقاومة التي تخطّط للوصول إلى البرلمان، والنشاط في الممارسة السياسية على حساب الأحزاب السياسية التي ضعفت هياكلها التنظيمية وانحسرت برامجها، ما يخلق من هذه المظاهر حراكاً سياسياً تعويضياً.

تحرّك أفقي

ظهرت خلال الاحتجاجات على نظام “الإنقاذ” في فترات متفاوتة وحتى اندلاع الثورة السودانية في ديسمبر (كانون الأول) 2018 من بين العناصر المنظمة، عناصر فوضوية متمردة على النظام القائم وقتها، لكن شملها القمع الممنهج حتى لم يترك مساحة للتمييز بينها والحركات السياسية المنظمة. وكان الوصف الأسهل للنظام وقتها بأن هؤلاء مندسون وشيوعيون.

بعد الثورة، تعامل هؤلاء مع الوضع القائم وكأن الحكومة الانتقالية ليست موجودة، وظلوا يتحركون أفقياً من دون هيكل سياسي محدّد وقيادة واضحة، لذلك كان التعلّق الكبير برئيس الوزراء عبدالله حمدوك كرمز سياسي، فأُطلقت عليه ألقاب “المؤسس” و”المنقذ” وغيرها، على الرغم من خلو سجله من نشاط سياسي أو رؤية سياسية واضحة، فهو موظف أممي اختير لهذا المنصب نظراً إلى خبرته السابقة، إذ شغل منصب الأمين العام السابق للجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة.

وعلى الرغم من أن فترة تولّيه المنصب اتسمت بفشل اقتصادي متصاعد، فإنه بعد عودته إلى منصبه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد نحو شهر من عزله، وفق اتفاق مع المكون العسكري، قال إن “الحفاظ على المكاسب الاقتصادية التي تحققت خلال العامين الماضيين، كان من بين الأسباب التي دفعته للعودة إلى منصبه”.

ولعله يقصد بالمكاسب صدور قرار من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بإعفاء أكثر من 50 مليار دولار من ديون السودان الخارجية ضمن مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (هيبك)، ما يمهّد لحصول السودان على منح وقروض جديدة من صندوق التنمية العالمي بمبلغ 4 مليارات دولار. ولا تزال هذه الإعفاءات قيد الإجراءات مهددة بقرارات أميركية قد تعيد البلاد إلى خانة العقوبات الدولية في حال لم يتم التوافق بين المدنيين والعسكريين.

من العفوية إلى التمرد

بدأت الثورة السودانية من غير تنظيم واضح، وعلى الرغم من تعلّقها ببعض الرموز السياسية، إلا أنها لم تُتِح الفرصة لأي حزب لاختراقها، وإن كانت قريبة من الحزب الشيوعي من دون تبنٍّ واضح من قبله لهذه القوى الثورية، واختارت التحرك التلقائي والعفوي هرباً من التقييد التنظيمي.

هذا الهروب كان كفيلاً بخلق حالة من النزوع نحو اللاسلطوية كمضاد لحالة الديكتاتورية التي أُسقطت، وكاحتراز من حالة أخرى تجسّدت في احتمالية استمرار حكم العسكر من خلال انفراد المكون العسكري بالسلطة نتيجة للإقصاء وعدم فاعلية المكون المدني.
تولدت خشية استيلاء الجيش على السلطة من وقوف هذا الأخير مع المحتجين إلى حين سقوط الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، ثم استمراره كشريك في الحكومة الانتقالية، متخذاً موقف فشل الثوار في وصفه بالحياد أو الانحياز إلى فكرة عودة حكم العسكر، ولم يستبِن الثوار الموقف المتناقض إلا بعد الخلافات الأخيرة بين المكونين التي سبقت إجراءات 25 أكتوبر (تشرين الأول).

عبّرت القوى الثورية عن خيبة أملها في قوى إعلان الحرية والتغيير، وتبعها بعض الرموز السياسية أبرزهم عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي صديق يوسف، الذي صرّح للصحف برأيه أن تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير “قد انتهى دوره، وأن دور التغيير منوط في المرحلة المقبلة بتجمع المهنيين ولجان المقاومة والمنظمات الديمقراطية”.

هذا الإحباط لم يظهر في المراحل الأولى من الثورة، إذ طغت عليه نشوة الإحساس بالنجاح في إسقاط نظام قائم منذ ثلاثة عقود. واستمرت موجة النضال ضد المكون العسكري، وبلغت ذروتها بعد إجراءات 25 أكتوبر، لكنها شملت المكون المدني أيضاً بعد عودة حمدوك من عزله وإطلاق سراح الوزراء المدنيين، فطرد الثوار بعضهم من المواكب الأخيرة بدعوى توافقهم المفترض مع المكون العسكري.

ثورة مضادة

فضلاً عن كونها امتداداً لـ”الربيع العربي”، فإن الثورة السودانية تحوّلت إلى ملامح الثورة المضادة في أكثر من ملمح، من خلال الاعتراض على مفهوم القيادة الذي يطغى على دور الشعب، ورأينا كيف يتم التضخيم لمشاركات أفراد عاديين ظهروا كرموز للثورة، منهم معاقون بصرياً وحركياً ومشردون وأطفال برزت صورهم في المواكب، وتغيرت وفقاً لها اتجاهات الثوار من التمسك بالقائد المخلص حمدوك أو ناشطين سياسيين إلى المواطن العادي، وجعله رمزاً وفقاً لذلك.

وهذا التغيير نتج من الإحساس بأن رضوخ حمدوك للعسكر سيؤدي إلى تقييد حركتهم كثوار، وخوفاً من التأثر بموقفه الجديد. ولم تفلح الإدانات التي دبجها حمدوك نتيجة قمع المواكب الأخيرة وتنديده باستخدام القوات الأمنية الغاز المسيّل للدموع وغيرها.

الأمر الآخر هو على الرغم من الإجماع الشعبي بأطروحات الثورة والمشاركة فيها من جل فئات المجتمع، فإن هناك فرزاً نشأ بين العامة والنخبة، على إثر أعمال التخريب للمنشآت العامة والاعتداء على أفراد الشرطة والجيش التي صاحبت الثورة، فانتقد متعلمون ومثقفون وفئات من موظفي الخدمة المدنية هذه المظاهر السالبة، بينما وصفها مؤيدون بأنها إحدى وسائل التعبير للقضاء على الاضطهاد.

هناك أيضاً التحول من الثورة كمفهوم حالم إلى واقعي بعد طول المدة من دون تحقيق نتيجة ملموسة وتعدد المواكب والتظاهرات من دون رؤية واضحة عند الثوار سوى إزالة الوضع الناشئ بعد الثورة ورضاهم به من قبل، إلى الرغبة ببناء واقع آخر، رافضين شراكة المكون العسكري التي وافقوا عليها من قبل، ورافضين تمثيلهم من خلال المكون المدني أيضاً.

هنا، لا بد من الإشارة إلى تأثر الحركة الثورية السودانية بالحركة “الأناركية” التي ظهرت في بعض بلدان “الربيع العربي”، لكنها أصبحت أكثر تأثراً بالجماعة “الأناركية” التي نشأت في منطقة القرن الأفريقي، ونشطت في حملة إدانة حرب تيغراي، واصفة تحركات آبي أحمد بأنها لإزالة قومية تيغراي والتوجه السياسي نحو اليمين وإبادة الحركات والأحزاب والتنظيمات اليسارية.

وظهر “الأناركيون” السودانيون في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حاملين أعلام وشعار الحركة ومنادين باتباعها، فضلاً عن ارتداء البعض لأقنعة الحركة.

أيديولوجيا جديدة

نفذت بعض أفكار الحركة “الأناركية” ومفاهيمها التحررية والمعمّمة على كثير من السلوك من خلال التغييرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي أحدثتها الثورة، واستغلت التعديلات المطروحة على التشريعات والقوانين. فسعت إلى رفض تدخل السلطة أيّاً كانت في حسم أي تحرك، مساوية بين التحركات السلمية والفوضوية باعتبار أن تدخل السلطة والقانون تغوّل على الحريات الشخصية ومرفوض، ويمكن أن يهدّد بنية المجتمع الجديد المراد تأسيسه، فوفقاً لـ”الأناركية”، ينبغي أن يكون المجتمع “في مأمن من أي حكومة أو سلطة دستورية أو قانون أو هيئة تشريعية”.

ونظراً إلى أن الثوار نشأوا من دون رؤى أيديولوجية واضحة، رافضين بشدة الأيديولوجية الإسلاموية من ناحية، بينما تتجاوز طموحاتهم الأيديولوجية الشيوعية من ناحية أخرى، فإن المواقف الرافضة لكل حلّ من قبل سلطة عليا عسكرية أو مدنية، باتت هي الأيديولوجيا الجديدة.

أما تجسّد الحركة اجتماعياً، فقد ظهر في التحركات الكثيفة للنسويات والمدافعين عن المثلية الجنسية والرافضين للتمييز وفقاً للهوية الجنسية. وتحولت أهداف بعض المنظمات مثل “لا لقهر النساء” التي نشأت في عهد النظام السابق لمنع تجاوزات النظام حينذاك وتقييده لحرية المرأة ونشاطها، من دورها الأساسي إلى التبشير بشعارات “الأناركية”.

وعلى الرغم من الإدانات الرسمية والشعبية لما نُشر عن حالات اغتصاب قيل إنها حدثت لمشاركات في موكب 19 ديسمبر، فإن المتاجرة بهذه المآسي والتلهف البائن لتسجيل حالات اغتصاب جديدة لوضعها في السجل النضالي الثوري، طغيا على أهداف المنظمة.

وتطور الأمر إلى رفض الدولة ككل ووصمها بعدم الشرعية، وهي كما في رؤية نعوم تشومسكي أن “الأناركية تتناقض مع الوصاية الفكرية لجميع المؤسسات الدينية والحكومية”. وحتى في ما يتعلق بالقضايا التي يتفق فيها الثوار والمدنيون، لم تكُن التبدلات السياسية خلال الأعوام الثلاثة الماضية على قدر التوقعات.

ويظهر ذلك جلياً في وجهات النظر المتباينة، إذ يرى أنصار هذه الحركة أنه ليس للقيم دور في الممارسة السياسية وبناء الدولة، ولا يعتقدون بضرورة التنظيم لممارسة السياسة ويفضلون ممارستها من قاعدة شعبية حرة.

مصدر الخبر صحيفة الإندبندنت البريطانية

اترك رد