بشارة جمعة أرور يكتب: تمادي المعتدي وهيبة الدولة

متابعات/ الرائد نت

دور النخب في النزاعات القبلية

ما العمل لصون الأمن القبلي ؟؟ سنجاوب على هذا السؤال في المقال بشكل مفصل بدءاً بالبغي الذي يعتبر آفة القوة والجهل أقصر الطرق التي تفضي بالقوة إلى البغي لتصبح أداة للظلم والعدوان والإحتراب.
وهذا ما تؤكده بوضوح عدم إندياح مفاهيم العدالة وحكم القانون وأخذ الحقوق بالوسائل المدنية في المجتمعات إذ لم تغادر أغلبها المحطة التي عبر عنها الشاعر الجاهلي في قوله:
ما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد.
والمفارقة المؤلمة أن المجتمعات التي ظلت على تخلفها في العالم الثالث الذي ننتمي إليه أكثر المجتمعات إستخداماً للأسلحة الحديثة التي تنتجها الدول المتقدمة في نزاعتها الداخلية الناتجة أساساً عن ضعف الوعي والإلتزام بشروط العقد الإجتماعي فيما بينها وعلى رأسها الأعراف والأحلاف والإنصياع لحكم القانون.
إن توفر الأسلحة الحديثة في مجتمعات مازالت تعيش بمفاهيم القبيلة التقليدية تجعلها قابلة للإشتعال ولأتفه الأسباب. ومن الواضح أنّ السودان ظل في السنوات الأخيرة يشهد بصورة متزايدة ظاهرة النزاعات والصراعات القبلية المسلحة ذات المضاعفات السياسية والإجتماعية الخطيرة. ولن نعدو الحقيقة في شيء إن قلنا أن هذه الظاهرة باتت تشكل تهديداً وجودياً للقبائل وتحدياً جدياً للأمن القومي خاصة مع وجود قابلية عالية لتسييسها من أكثر من طرف، ونحسب أن الظاهرة هذه تتطلب حزمة من السياسات والإجراءات لإحتوائها ومنع محرقتها من التمدد… وأول المطلوبات في هذه الحزمة في تقديرنا هو ما يتصل بالجانب الأمني المباشر.
إن ردع الدولة للتفلتات الأمنية مهم جداً في ذاته وهو بالإضافة لذلك ضروري لتهيئة المناخ للمعالجات الأخرى التي قد تأخذ مدىً زمنياً أطول ومن المهم جداً أنّ ندرك أنّ تقاعس الدولة عن ردع المعتدي إن كان ذلك عجزاً أو بسبب اللامبالاة أو التواطؤ سيفرز في الواقع أمرين خطيرين، وأول الأمرين هو تمادي المعتدي في عدوانه وثانيهما بحث الضحية عن أسباب و وسائل الدفاع عن حقه خارج إطار مظلة الدولة وقوانينها وضوابطها وهذا بإختصار هو الخروج عن حكم القانون.
إن هيبة الدولة وحكم القانون يتحققان فقط عندما يشعر المواطن بقدرة الدولة وحرصها على ردعه عن الإعتداء على الآخر وفي المقابل حماية الآخر من الإعتداء عليه. وذلك يتتطلب جاهزية أجهزة تطبيق القانون، الشرطية والعدلية لا من حيث القدرة المادية فحسب، وإنما من حيث الدراية والرغبة للنهوض بواجباتها بالكفاءة والحيدة اللازمتين.
والواقع أن أجهزة إنفاذ القانون والشرطة على وجه التحديد، تعاني من فقر مريع يقعد بها عن أداء واجباتها ومهامها والتصدي للمشكلات والظواهر السالبة على الوجه المطلوب في جل إن لم يكن في كل المناطق القابلة للإشتعال بالنزاعات القبلية في أطراف البلاد، ففي أحيان كثيرة تكون الشرطة من حيث العدة والعتاد أضعف بكثير من الطرف الذي يراد منها التعامل معه، إذ بإنتشار السلاح الناري الحديث لم تعد الدولة تحتكر وسائل العنف لردع الخارجين عن القانون وحتى في الحالات التي لا تكون الشرطة أضعف من الطرف الذي عليها ملاحقته، فإنها تكون عاجزة عن الحركة للوصول لموقع الحدث في الوقت المناسب. والمعلوم أن التأخير في إدخال الجريمة إلى مجرى القانون خاصة في النزاعات ذات الطابع القبلي يدفع المتضرر بالتصرف بنفسه، ومن المؤسف حقاً أن تكون حال الشرطة في مناطق النزاعات القبلية على ما هو عليه بالرغم من تضخم إعتمادات قطاع الدفاع والأمن…
وهنا يجدر بنا أن نضيف أن توفير الإمكانيات المادية وحدها لا يكفي لتقوم أجهزة تطبيق القانون بواجبها على الوجه الأكمل إذ لا بد أن تتصرف على الوجه الذي يكسبها ثقة كل الفئات في المجتمع. وهنا نقول بكل جرأة أن تراثاً طويلاً من الأخطاء لا مجال لإحصائها هنا، قد جعل من حيادية أجهزة الدولة في النزاعات القبلية موضع إستفهام كبير ويتعين أخذ هذه الحقيقة في الإعتبار عند إختيار قيادات وعناصر تلك الأجهزة التي يعهد إليها التعامل مع النزاعات القبلية كما يجب تعهد ممارساتها بالرقابة اللازمة.
فإن من أهم مطلوبات الأمن القبلي والسلام الإجتماعي في المجتمعات القابلة للإشتعال، الجانب التوجيهي لأن الأمن الحقيقي لأي مجتمع يكمن في إلتزامه الذاتي بأسس التعايش السلمي، وإنه لمجتمع مريض ذلك الذي تحرسه الأجهزة الأمنية من نفسه، ولكن الحقيقة المرة التي لا بد أن نتعايش معها أن مجتمعات كثيرة في بلادنا لم تبرح محطة غزية التي ما فتئت تُغوي أهلها، فمن المؤسف حقاً أن يلقي كثير من خلق الله حتفهم في نزاع قبلي بسبب بهيمة، زراعة أو إمرأة في القرن الحادي والعشرين، ليبرهن ذلك أن واقع بعض مجتمعاتنا لا يختلف كثيراً عن الواقع الذي إشعلت فيه ناقة البسوس حرباً بين قبيلتين لمدّة أربعين عام.
واليوم عندنا فإن مقطعاً ركيكاً لإحدى الحكامات أو المغنيات كفيل بإشعال فتنة تحصد عشرات بل مئات الأرواح البريئة. وعليه فإن الجانب الإرشادي الذي يجب أنّ تتضافر فيه جهود الإعلام الرسمي والدعاة والمنظمات المعنية بثقافة السلام وحقوق الإنسان تعتبر مدخل هام للأمن القبلي والسلام الإجتماعي.
ولكن الجانبي الاقتصادي كأحد مطلوبات الأمن القبلي يعتبر أيضاً ذات أهمية في تقليل حدة النزاعات والصراعات القبلية لأنها من أمراض التخلف التي لا يمكن علاجها إلا بالتنمية الاقتصادية والإجتماعية الشاملة وفي واقعنا فإن الفقر والبطالة والفاقد التربوي الكبير عوامل تغذي الجنوح نحو النهب والسلب والإعتداء على الآخرين.
وإذا كانت التنمية الشاملة تتطلب موارد كبيرة وبالتالي وقتاً طويلاً لإنجازها في ظل تزاحم الأولويات، فإن قدراً إسعافياً من التنمية ذات الإرتباط الوثيق بالأمن أمر ملح وكفيل بتحقيق قدر من الأمن والإستقرار لا يحتمل التأجيل. فالمعلوم أن إزدياد التزاحم على الموارد الطبيعية لأغراض الزراعة والرعي واحدة من الأسباب الأساسية لحدوث الإحتكاكات التي تفرز التزاعات والصراعات القبلية…
وهناك الجانب المهم وهو جانب الإدارة الأهلية التي يجب تفعيلها لتلعب دورها في الأمن القبلي والسلام الإجتماعي بالرغم من أنه من غير المنتظر أن تعود الإدارة الأهلية لمكانتها وسطوتها القديمة لأن التغييرات التي طرأت على المجتمعات لا تسمح بذلك ولكن ظاهرة القبلية في طورها الجديد الخطير تحتم على الدولة إصلاح الإدارة الأهلية وإبعادها عن التسييس والإنفاق عليها بما يمكنها من لعب دورها الأصيل في الضبط الأمني…
وأخيراً نختم بالجانب الأهم وهو الجانب السياسي الذي يعتبر رأس الرمح وأس البلاوي في كل الأزمات بما فيها الأمن القبلي.
وإن من أهم المطلوبات في هذا الصدد هو توفر الإرادة لعدم إستخدام القبائل كأداة للأهداف السياسية والحزبية البحتة. ولا يخالجنا أدنى شك بأن دوائر متنفذة ضالعة وموغلة في سياسة فرق تسد ولا تتورع عن إشعال الفتن القبلية الجهلاء لمآربها الحقيرة وهذه السياسة هي التي تسببت في فصل الجنوب ومحرقة دارفور والمنطقتين والشرق، بل أزمت الأوضاع في كل البلاد.
وإتخاذ القبيلة كوعاء وحاضة للممارسة السياسية موجود وعلى مستوى النخب المثقفة وهذا شيء مدمر للمجتمع والدولة يجب التوقف والإقلاع عنه، وبحب على هذه النخب أن تصبح ترياقاً ومصدات ضد سياسات التفريق بين القبائل بإشعال الفتن وإذكاء نيران الحروب.
ونكتب هذا المقال من وحي أحداث كثيرة وقعت و وقائع ماثلة تجلت فيها كل الأبعاد التي ذكرناها آنفاً وبوضوح لا لبس فيها ولا أحد يستطيع إنكارها أو يكابر…
وختاماً نأمّل ونرجو أن توضع خطة متكاملة حول الأمن القبلي بإعتباره عنصر هام وأساسي في الأمن القومي الشامل لتدارك المشكلات والأزمات قبل أن تنزلق بنا إلى هاوية سحيقة لا قرار لها.
اللهم جنب البلاد الفتن ما ظهر منها وما بطن

التعليقات مغلقة.