عثمان ميرغني يكتب: “فوبيا” المفاوضات المباشرة
متابعات/ الرائد نت
القفز فوق جدول ماء عرضه نصف متر فقط، أمر سهل يقدر عليه أي إنسان بلا وَجل، لكن هذه المسافة نفسها لو عُلقت بين ناطحتي سحاب تبدو صعبة خطرة تحبس الأنفاس؛ فالخوف هنا لا يرتبط بطول القفزة بل بهواجس مخاطرها المحتملة.
هذا هو بالضبط حال الأزمة السودانية، علاجها وعبورها في الحقيقة بسهولة القفز بين ضفتي جدول يفصل بينهما نصف متر فقط، لكن الأطراف السياسية السودانية تضخ فيها الخوف والخطر والهواجس فتجعلها معلقة بين ناطحتي سحاب محفوفة بسراب الموت والفناء.
والسبب في تهويل الأزمة أن الأحزاب السودانية تفتقر لأدب وثقافة الحوار، بالتحديد الحوار المنتج و“التكنيك“ الذي ينجب مثل هذا الحوار الإيجابي، وبدلاً من النظر للحوار على أنه لعبة الوصول إلى المرمى، فهي تنظر إليه على أنه فن اللعب بلا مرمى.
ومن هذا الفهم، فالأحزاب تنظر إلى المفاوضات من المرآة الخلفية، لا الزجاج الأمامي للسيارة، تنظر للماضي الذي وَلّى وانقضى أكثر من المستقبل الآتي.
والفرق بين النظرتين أن الأولى (النظرة للماضي) تغرق الجميع في المزايدات السياسية وتَوَهُّم البطولة مع تخوين الآخر، بينما النظر إلى الأمام، للمستقبل، يرفع مناسيب العشم والأمل والرجاء في الفوز للجميع.
أخيراً، أعلنت الآلية الثلاثية الدولية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد التي تتوسط في خلافات الأطراف السودانية) يوم الأربعاء المقبل موعداً لبدء المفاوضات المباشرة بين الأطراف، ومبكراً قبل اليوم الموعود حصدت الآلية عدة بيانات رفض من أحزاب وتجمعات سياسية مقدرة.. رفض مبني على العشم في ”لايكات“ الفيسبوك أكثر من المصلحة العليا للوطن.
المفاوضات المباشرة تعني دخول الأطراف المتنازعة إلى قاعة واحدة وفتح الأجندة المختلف عليها والتحاور للوصول إلى اتفاق قد لا يرضي الجميع، لكنه يفتح الطريق للخروج من حالة الاختناق السياسي والاقتصادي.
ومن الممكن تصور أن يرفض طرف سوداني الدخول إلى قاعة المفاوضات بناءً على تقديراته، لكن من غير الممكن ألا يكون لهذا الطرف أية رؤية أخرى لحل الأزمة، فالذي يرفض خيارا متاحا يجدر به أن يصنع خياراته التي يؤمن بأنها المخرج والحل الأمثل، أن ينظر إلى الأمام والمستقبل ورجاء المصلحة العليا للبلاد.
لكن الأطراف السياسية السودانية تستسهل إصدار بيانات لا تُكلفها حتى ثمن الورق والحبر، فهي تُكتَبُ وتُنشَر إلكترونيا وتنتهي مسؤوليتها بانتهاء بثها في الأثير المجاني، فتعلن رفضها التفاوض المباشر ثم لا شيء غير ذلك، على مبدأ الشاعر أبي الطيب المتنبي: أنام ملء جفوني عن شواردها، ويسهر الشعب جراها ويختصم.
القصة المشهورة في التاريخ العربي القديم عن امرأتين اختصمتا في رضيع كل تدعي أنه ابنها، فذهبتا إلى القاضي فأمر أن يُقطَع الرضيع نصفين وتحصل كل منهما على نصفه، فما كان من أمه الحقيقية، إلا أن بكت وترجت القاضي أن يهبه للأخرى.
الولاء للوطن وسلامته من التقطيع لو كان هو الدافع لما استنكف حزب واحد أن يضحي بأمومته من أجل بقاء الجسد واحداً، لكن الواقع الآن أن الجميع يمارسون لعبة خطرة قد تفضي لتمزيق الوطن، وحينها قد لا يجدون قطعة منه يتعلقون بها.
والأعجب في المشهد السياسي، أن الجميع يطالبون بحوار ”سوداني-سوداني“، ويؤكدون أنه السبيل الوحيد الذي يقود إلى الحل. ومع ذلك، تبدو مهمة صعبة للآلية الثلاثية الدولية أن تجمع، مجرد جمع، الأطراف السودانية تحت سقف قاعة واحدة.
ومن باب حسن الظن من عندي، ربما الأمر سببه سوء الفهم لمعنى ”المفاوضات“، فالبعض يظن أن مجرد دخوله إلى قاعة المفاوضات قبول برؤية الآخر للحل، أشبه بدخول ذوي العروسين إلى قاعة الفرح، لترديد العبارات التي يلقنها لهم المأذون. والمأذون هنا هو الآلية الثلاثية الدولية.
الأحزاب تستخدم كثيرا عبارة ”شروط مسبقة“ للإشارة إلى ما ترجو أن يُبَت فيه قبل دخول قاعة المفاوضات، وفي الواقع أن ما تظنه الأحزاب شروطا هو بالضبط ما يجب أن تخلص إليه المفاوضات، ولو وافق الجميع عليه كشروط مسبقة فما الحاجة للدخول في المفاوضات أصلا.
وتبدو بعض الأحزاب كأنها لا تريد دخول قاعة المفاوضات إلا إذا ضمنت نتيجتها، مثل طالب يشترط النجاح في الامتحان قبل دخوله قاعة الامتحان.
حل الأزمة السودانية يمكن أن تكتمل حلقاته على فنجان قهوة في جلسة واحدة لو تعدل منهج النظر للحل، الاتفاق على الأهداف والغايات أولا ثم البحث في الطرق التي تقود إليها.
من الصعوبة أن يختلف حزبان على الأهداف المطلوبة للوطن السودان، فإذا كانت الورقة الأولى في امتحان المفاوضات تتعلق بـ“الأهداف والغايات“ فإن حلها لن يستغرق إلا نصف دقيقة.
كيف نحقق هذه الأهداف والغايات؟ ذلك هو عنوان ورقة الامتحان الثانية، والإجابة تحتمل ألف طريقة وطريقة، طالما تُفضي إلى الهدف ذاته، و“كل الطرق تؤدي إلى روما“.
وعادة ما تتفق الأحزاب السودانية على ”المصطلحات“ وتختلف في فهمها، مثل كلمة ”ديموقراطية“ فهي تعويذة لا يَمّل الوسط السياسي في السودان من ترديدها، وكُل يغني على ليلاه، فالرئيس الأسبق جعفر نميري، الديكتاتور الذي دخل القصر الجمهوري على ظهر دبابة، أول ما فعله أن غيّر اسم السودان وأسماه رسميا ”جمهورية السودان الديموقراطية“!
تفكيك ”المصطلحات“ يقود إلى مفاوضات سهلة سريعة المفعول، فبدلاً من كلمة ”ديموقراطية“ الأجدر تحديد السِمات الدالة عليها، والتوصيف الفني الدقيق لها، فلا يُعقل أن يتحدث عن ”الديموقراطية“ أحزاب ليس فيها رئيس واحد جاء بصندوق الانتخابات داخل حزبه.
ولتسهيل الوصول إلى اتفاق عبر المفاوضات المقبلة، أقترح أن يفتح الباب على مصراعيه للإعلام لينقلها مباشرة على الهواء، حتى يصبح لكل سياسي وجه واحد.
التعليقات مغلقة.