في بريد اليسار السوداني.. منطق العلمانية يقود إلى الدّين.. د. ناجي مصطفى يكتب..
الخرطوم/ الرائد نت
كتبتُ مقالاً قبل أيام قدمته بين يدي تيار اليمين السوداني داعياً لتفكير جمعي يقود عملية الدعوة والإصلاح الديني نحو النضج الذي يتطلبه العصر ويبتغيه، واليوم أقدم هذا المقال لقيادات تيار اليسار العلماني، أخص منهم مفكري الحزب الشيوعي والتيار اللاديني.
وفكرة هذا المقال أنّه نقض لفكرة العلمانية من مطلقها هي، ودون الاحتياج للاتكاء على رصيف النص الديني، ضرورة أنّ العلمانية تقصي الدين ونصوصه عن أن يكون حاكماً في مثل هذا، والمقابل يقودنا عبر نفق العلمانية لبلوغ سطح الدين، وسابحث مع القارئ الكريم من خلال المقال إمكانية المنطلق المشترك من أجل الوصول للنقطة المرجاة المشتركة.
وساطرح هنا جملة من الأسئلة لعل الإجابة عنها تقودنا معاً نحو تحقيق هدف هذا المقال والأسئلة هي:
١) ماهي الأرض المشتركة التي يمكن أن نتحاور انطلاقاً منها مع العلماني؟
٢) لماذا نفصل بين الدين والدولة أو بين الدين والحياة؟ أين خلل الربط بينهما.
٣) إذا سلمنا جدلاً بفصل الدين عن الحياة أو عن الدولة، من أين نحصل على النظام الضروري لاستقرار الحقوق وتنظيم الواجبات؟
ابدأ الآن معك صديقي القارئ في تلمّس الطريق المتاحة للإجابة وذلك وفق التالي:
إجابة السؤال الأول: وهو : ماهي الأرض المشتركة التي يمكن أن نتحاور انطلاقاً منها مع العلماني؟
والإجابة في تقديري سهلة ومتاحة وهي الأرضية التي خاطب الله بها الناس ليؤمنوا، خاطبهم بمقتضى العقل المجرد، العقل المحكوم بدلالة المنطق (أم خلقوا من غير شيء، أم هم الخالقون؟) وهي طريقة طرح الأسئلة من أجل تحفيز العقل للإجابة، عليه فنحن نحتكم لرصيف العقل الإنساني البسيط بمقوماته المنطقة المعروفة ضرورة إنّ العلماني ينكر أثر النص في السياسة وشأن الدولة العام.
الإجابة على السؤال الثاني وهو :لماذا نفصل بين الدين والدولة أو بين الدين والحياة؟ أين خلل الربط بينهما.
والجواب المتاح هو أنّ هناك نظاماً للسياسة هو أفضل من الدين، أو أن الدين يفسد الحياة والسياسة.
وطريق البرهنة على هذا الجواب هو إما بالتجربة والمقارنة أو الاستقراء للتاريخ أو الراهن، وسبيلها التفصيل وليس الإجمال، لذلك دعنا نتخذ مثالاً مما يكثر الكلام فيه اليوم مثل الميراث أو الجهاد أو تعدد الزوجات أو الطلاق الذي بيد الرجل، فنحن نعلم أن أحكام الدين في كل هذا لامفسدة فيها، بل هي تحقق المصلحة ولدينا الشواهد المعقولة لهذا، ونحن نقطع ان العقل البشري مهما اجتهد فهو عاجز عن الإتيان بأحكام ادعى لتحقيق المصالح منها، فإن قلتَ فيها مفاسد انتقل الحديث إلى جانب التفصيل ونحن نقبل النقاش حولها ما استطعنا لذلك سبيلاً ونقطع من منطلق الإيمان أن العقل الصحيح لن يستطيع نقضها من منطلق المفسدة والمصلحة، ولكن المهم الآن هو أن نتفق اننا متى بلغنا بالعلم المتاح حدّ القطع بصلاحية أحكام الدين فقد بلغنا المطلوب وثبت لدينا إنّ أحكام الدين في السياسة والحياة كلها مصالح يقبلها العقل متى تجرد وخلا من العاهات.
إجابة السؤال الثالث وهو : إذا سلمنا جدلاً بفصل الدين عن الحياة أو عن الدولة، من أين نحصل على النظام الضروري لاستقرار الحقوق وتنظيم الواجبات؟
والجواب ينطلق من أنّ الحياة والسياسة تحتاج لقانون ونظام وأحكام، هذا منتهى إجماعي لايقول العقل بخلافه، وفي هذه الحالة يثور سؤالنا السابق، وفي محاولة الإجابة عليه أطرح جملة من الافتراضات الممكنة:
إما أن يكون مصدر الأحكام والنظام هو شخص أو مجموعة يرتضيها الناس أو الشعب، وفي هذه الحالة يبقى السؤال قائماً إذ إنّ هذا الشخص أو المجموعة أيضاً بحاجة إلى مصدر للأحكام إذ لا يعقل أن يسند شأن الحياة والناس لهوى شخص أو مزاج مجموعة.
الافتراض الثاني هو أن يخضع النظام للعقل المجرد كما نفعل الآن في هذا المقال، وهذا الافتراض منقوض بالمنطق العقلي نفسه إذ إن العقل قادر على العمل في المعقولات وفق منظومة منطقية قائمة به، فالعقل يعمل بالمنطق، لهذا تختلف العقول باختلاف القيم المنطقية، فنحن عندما نقول العقل فنحن نتحدث عن الآلة التي تحتاج إلى نظام ونحن هنا نطلب النظام الذي يمكن أن يعمل به العقل، فرجعنا مرة أخرى لسؤالنا ذاته.
الافتراض الثالث هو أن نلجأ للتصويت والأكثرية في اختيار النظام الحاكم للحياة والسياسة، وهذا افتراض احتيالي فإن الأكثرية وسيلة وسيطة لمعرفة الصواب وهي إشارة له، ونحن نريد أداة صناعة الصواب وليس طريقة معرفته، تسهيلاً لهذه الفكرة قد تكون انت مؤمناً بما يقوله زيدٌ من الناس لأسباب تعلمها، فإن قال زيدٌ في مسألةٍ قولاً فأنت تعرف أن قوله صواب، لكنك لا تعرف لماذا هو صواب، ومثل هذا الأكثرية فهي وسيلة لمعرفة الصواب ولكننا لا نعرف بها الصواب في ذاته، فإن قلت لايهم معرفة كيف جاء الصواب بل المهم ان نعرف أنه صواب وهذا يكفي، قلت لايكفي أبداً لأربعة أسباب أولها أننا سنبني نظاماً للدولة والحياة يقوم على الجهل بالأسباب وحقائق الأشياء، وهذا مرفوض وثانيا ان الأكثرية ليست معصومة وهذا إقحام في الشك والجهل والخطأ لا نقبله، وثالتها أنّ فيه تعطيلاً للعقل، ورابعها اننا نعلم أن كل رأي فردي قد ابتنى على سبب غير الأكثرية، فالأكثرية علامة لكن السبب الحقيقي مجهول وهذا جهل لا يقبله العقل ليكون نظاماً للحياة و َالسياسة.
الافتراض الرابع والأخير هو ان نتحرى بعقولنا ومصادر المعرفة لدينا عما يحقق المصالح ويدفع المفاسد، ضرورة أن فكرة التنظيم والأحكام هي من أجل تحقيق مصالح الناس والدولة وتنظيم الواجبات والحقوق لتحصيل هذه المصالح ودفع المفاسد،
مثالاً لهذا، افتراض أننا أنشأنا إشارةً ضوئية للمرور في أحد التقاطعات، وكنا بصدد كتابة قانون للمرور، وبعيداً عن الدين (افتراضاً) ثار سؤال عن حكم قطع إشارة المرور، الأحكام المتاحة هي المنع والتجريم أو الإباحة، والمقصد من وضع الإشارة هو تنظيم حركة المركبات والأشخاص، وقطعها يؤدي لتعريض الحياة للخطر، فالمصلحة هي في تجريم قطع الإشارة قولاً عقلياً واحداً منشؤه منع المفسدة الناتجة عن قطع الإشارة، ثم عند الحديث عن العقوبة المقررة لجريمة قطع الإشارة فإننا نقرر من العقوبات ما يحقق قطعاً مصلحة امتناع الناس عن ارتكاب هذه الجريمة. وهذا الافتراض هو الافتراض الوحيد المقبول، وهو أنّ البديل المقبول للدين عند العقلاء هو إعمال العقل لاختيار ما يحقق المصالح وما يدفع المفاسد.
والعبارة الحاسمة الآن هي أن ما لا يعرفه كثير من دعاة العلمانية هو أنّ هذا الافتراض الرابع هو عين الدّين.
فإن أحكام نصوص القرآن والسنة كلها جاءت بالمصالح الدنيوية المطلوبة لاستقامة الحياة ثم هي من بعد ذلك قررت مبدأ العمل بالمصالح والمصالح المرسلة من أجل إدخال كل حكم يحقق اي مصلحة أو يدفع أي مفسدة لم يوردها النص داخل حظيرة الأحكام والدين..
معضلة العلماني والتي ربما صنعها بعض الفقهاء المعاصرين هو خلطه بين الدين والموروث الديني، وبين الفقه وأصول الفقه، وبين الإيمان بالغيب والقطع بقيام المصلحة و وجودها
إنّ معضلة هذا التلاقي الحميد الآن بين العلماني وبيننا لا يفسده إلا ضعف العلم بحقائق الأحكام الشرعية، وبمدى تحقيقها للمصالح، ومدى مقدرتنا في تقديم الشرح العلمي للأحكام دون سياقة الدين نحو المادية البحتة، وفي مدى قدرتنا على تقديم أحكام الإسلام بروح العصر ومطلوباته وضرورات التجديد المطلوب للموروث الفقهي والاستناد للنص المرجعي بفقهٍ رصين أصيل،،
فهل يستطع أصحاب تيار اليمين ان يفعلوا هذا؟ وهل يرجع أصحاب تيار اليسار لنقطة الالتقاء التي رسمها هذا المقال؟ هذا ما أرجوه واترقبه.
التعليقات مغلقة.